من القاهرة إلى كيب تاون.. مشاهد المحاكمات والمصالحات - راوية توفيق - بوابة الشروق
الأربعاء 16 يوليه 2025 3:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

من القاهرة إلى كيب تاون.. مشاهد المحاكمات والمصالحات

نشر فى : الأربعاء 13 نوفمبر 2013 - 7:55 ص | آخر تحديث : الأربعاء 13 نوفمبر 2013 - 7:55 ص

فى اليوم الذى بدأت فيه محاكمة الرئيس السابق محمد مرسى كنت أتوجه إلى جنوب أفريقيا للمشاركة فى مؤتمر ينظمه أحد المراكز البحثية حول سياسات دول الشرق الأوسط تجاه القارة الأفريقية. حطت الطائرة فى الساعات الأولى من صباح يوم المحاكمة فى مطار جوهانسبرج الذى ازدحم بحركة المسافرين. كان فى صالة الاستقبال عشرات من ممثلى الهيئات والفنادق ينتظرون المسافرين القادمين للمشاركة فى فعاليات رسمية، أو مؤتمرات علمية، أو للسياحة والاستجمام. تذكرت أن هذا البلد كان قبل قرابة ثلاثين عاما يخضع لعقوبات دولية أنهكت اقتصاده ودفعت نظام الحكم فيه إلى إعادة النظر فى سياسات التفرقة العنصرية، التى تبناها بشكل رسمى لما يزيد على أربعين عاما ودافع عنها باستخدام القمع والقوة المسلحة فى الداخل والخارج.

فى اليوم التالى جمعتنى مائدة العشاء مع أحد الناشطين فى حملة المقاطعة الاقتصادية لنظام التفرقة العنصرية، حكى لى كيف طلب منه القس ديزموند توتو، أحد أبرز المناضلين فى جنوب أفريقيا والذى حصل على جائزة نوبل للسلام عام 1984، أن يتواصل مع بنوك الولايات المتحدة وأوروبا لحثها على وقف التعامل مع الشركات والبنوك فى جنوب أفريقيا. فى غضون سنوات قليلة كانت هذه الضغوط، وغيرها قد بدأت تؤتى ثمارها. لم تعد القوى التى ساندت هذا النظام وكانت على استعداد للدفاع عنه، بما فيها المؤسستان العسكرية والأمنية، قادرة على مواجهة القوى الدافعة للتغيير، وعلى رأسها القوى الاقتصادية التى أصابها الضرر الأكبر من الضغوط الداخلية والخارجية. ومع سقوط الاتحاد السوفييتى لم تعد ورقة التحالف مع الولايات المتحدة ضد الأنظمة الشيوعية فى القارة ورقة رابحة فى يد نظام التفرقة العنصرية. باختصار، كانت الرسائل، كما أجمع المشاركون فى حوار مائدة العشاء، واضحة؛ لم يعد من المحتمل اقتصاديا والعملى سياسيا والمقبول أخلاقيا، استمرار نظام القمع والتمييز مع تزايد تكلفة سياساته.

•••

كانت وجهة نظرى أن وجود مثل هذه الرسائل القوية لا يكفى لتغيير سياسات الأنظمة، فالأمر يحتاج إلى قيادة سياسية تتفهم هذه الرسائل وتستجيب لها بقرارات جريئة قد تصدم الجماهير للوهلة الأولى. كان ذلك هو الموقف الذى اتخذه آخر رئيس من الأقلية البيضاء، الرئيس فريدريك دى كليرك. كان بوسع دى كليرك أن يتمسك ببقاء النظام حتى الرمق الأخير ويعبئ الأقلية البيضاء، التى لم يكن معظمها وفقا لاستطلاعات الرأى بمدرك لخطر انزلاق البلاد نحو حرب أهلية، ضد خيارى التفاوض والمصالحة. كان بإمكانه أن يدعى أنه يحارب حركة كانت تصنف فى جنوب أفريقيا وفى بعض الدول الغربية باعتبارها حركة «إرهابية». فقد أدرجت الولايات المتحدة حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى الذى قاد الكفاح ضد نظام الفصل العنصرى على قوائم المنظمات الإرهابية، حتى إن زعيمه نيلسون مانديلا ظل اسمه مدرجا على قوائم الممنوعين من دخول الأراضى الأمريكية حتى عام 2008، ومازالت بعض قياداته، وعلى رأسهم وزير الإسكان السابق ورجل الأعمال المعروف طوكيو سيكسوالى، الذى تم توقيفه فى مطار جون كينيدى الشهر الماضى، على هذه القائمة. كان يمكن للرئيس دى كليرك إذن أن يتغاضى عن الرسائل السياسية التى تؤشر لضرورة التغيير، ولكنه قرر أن يستجيب لها برفع الحظر عن حركات التحرر والبدء فى عملية تفاوض أسست لقواعد التحول الديمقراطى فى هذا البلد المحورى فى القارة الأفريقية.

•••

مشهد آخر فى الشوارع وعلى شاشات التليفزيون فى جنوب أفريقيا كان يشير إلى نفس الدلالة، دلالة دور القيادة التى تحسن قراءة المشهد السياسى، وتقوم بمهمة تاريخية تخلد اسمها. تمتلئ الشوارع والشاشات بأخبار ودعاية الفيلم السينمائى الذى يجسد حياة الزعيم نيلسون مانديلا، والذى كان قد بدأ عرضه بعرض خاص قبل وصولى إلى جنوب أفريقيا بيوم واحد. مازال العالم يحتفى بشخصية هذا المناضل حتى أنى أتذكر الاحتفالات التى أقيمت فى عواصم عدة منذ خمسة أعوام بمناسبة بلوغه عامه التسعين. ولعل سر هذا الاحتفاء يكمن فى قدرة مانديلا، وهو الذى قبع فى سجون نظام الفصل العنصرى لمدة سبعة وعشرين عاما، أن يتسامى على الظلم الذى تعرض له، وأن يعبر ببلاده فترة انتقالية صعبة. كانت جنوب أفريقيا تحتاج فى هذه الفترة لزعيم يلم شمل خصوم الماضى تحت مظلة التنوع فى إطار الوحدة، ويقف بحزم ضد دعاة التطرف، ويعطى أولوية لمصالح الوطن على المكاسب السياسية الضيقة لحزبه، وقد كان مانديلا هو هذا الزعيم.

•••

قضيت أياما قليلة فى جنوب أفريقيا كنت أتابع فيها أخبار مصر فى الصحف وعبر وسائل التواصل الاجتماعى؛ ضحايا جدد لاشتباكات تزيد من استقطاب ساهمت جميع القوى السياسية فى تغذيته، اقتصاد يصارع للتعافى بعد أن منع ضخ أموال الخليج زيادة تدهوره، صورة لمصر فى الخارج يطغى عليها مشهد المحاكمات الهزلية والملاحقات الأمنية والمشاحنات الأهلية. قد لا تشبه مصر الآن جنوب أفريقيا منذ ثلاثين عاما، لا من حيث طبيعة الصراع وأطرافه ولا من حيث موقف الأطراف الدولية، ولكن ما تحتاجه مصر للخروج من الأزمة هو ذاته الذى أتاح لجنوب أفريقيا الخروج من دائرة الصراع فيها؛ قيادات مسئولة تقود جماهيرها لمساحات الحوار والتفاوض بدلا من أن تزايد على صراعاتها وأوجاعها، وتوقف دائرة القمع والقهر التى لا تولد إلا عنفا.. رسائل سياسية واضحة، فهل من مجيب؟

راوية توفيق مدرس العلوم السياسية جامعة القاهرة
التعليقات