رحلة البحث عن هوية - نادين السيد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رحلة البحث عن هوية

نشر فى : الإثنين 14 مارس 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : الإثنين 14 مارس 2022 - 7:25 م
جاءت عطلة نصف العام وأردت استغلال الوقت فى تنمية الهوية المصرية لبناتى ذوات الستة أعوام فقررنا الذهاب إلى الأقصر وأسوان وزيارة المعابد التاريخية، وبالأخص معبد الكرنك ومعبد الأقصر بعد متابعتنا للاحتفال بافتتاح طريق الكباش فى نوفمبر الماضى.
من الصعب لفت انتباه طفل الـ( Generation Alpha ) مواليد ما بعد عام ٢٠١٠، فالمنافسة على اهتمام جيل أتيح له وسائل الترفيه من حول العالم وبنقرة أصبع والأركيدز وغيرها من المغريات ليست هينة. فمن الصعب اقناع طفل أن يترك الفيديو جيمز ويذهب إلى متحف عتيق به آثار لا يفقه عنها شيئا. والكثير من أطفال هذا الجيل لم يدرسوا جغرافيا وتاريخ مصر كما درسناها نحن، ولا يأبهون بالمحتوى الترفيهى المحلى الذى نشأنا نحن عليه، مما يترك عبئا على الأهالى لسد هذا الفراغ فى الهوية والمعرفة.
ولكن عظمة موكب المومياوات الملكية زرعت بذرة اهتمام بتاريخنا وآثارنا، فالمومياوات يقترنون بسحر وغموض المغامرة لدى أطفال العالم. واحتفالا بالموكب ومن ثم افتتاح الطريق الجديد، اجتمعنا بأصدقاء بناتى وارتدوا الزى الفرعونى لمشاهدة الحدث ولجأنا لجوجل للبحث عن قصص ومغامرات ملوك الفراعنة التى يمكنها منافسة مغامرات ديزنى. فحكينا لهم عن الملكة أحمس نفرتارى، المحاربة الشجاعة التى قادت فرقا عسكرية كاملة ودونت بالتاريخ كمحاربة تقاتل بضراوة تعادل قصة مولان المحاربة الآسيوية التى فتنتهم منذ عدة أشهر. وصورت لهم يوم الاحتفال بطريق الكباش كيف خرج قدماء المصريين للاحتفال بعيد الابت وتذكروا احتفالات Day of the Dead المكسيكى الذى تعرفوا عليه من خلال فيلم «Book of Life». لم يكن مهما بالنسبة لأطفال فى هذه السن معرفة طول الطريق، وإعجاز العلم فى عملية التحنيط لم يعنى لهم شيئا على الإطلاق. ولكن برقت أعينهم عند سماع الأساطير والحكاوى المثيرة، وتركوا التابليتس واستمعوا إلى قصص الملكة حتشبسوت التى تصورت فى صورة فرعون رجل لتصبح أول حاكمة لمصر، وشاهدوا المشاهد الدرامية فى الموكب واحتلت موسيقى موكب المومياوات مكان «Dance Monkey» وأصبحنا نستمع إليها ليلا نهارا. وتبدل الإلحاح المتواصل على الذهاب لديزنى بالإلحاح لزيارة معبدالكرنك الذى شاهدناه فى أبهى صوره فى الاحتفال بطريق الكباش. ربما أيضا اعتقدن أننا سنجد ذات الاحتفالات والموسيقى والراقصات بالمعبدحين نزوره، وللشفافية المطلقة، لم أصلح لهم هذا المعتقد، لم أرد فرقعة هذه الفقاعة من الاهتمام بعراقتنا وتركت لجام خيالهن يشطح كما شاء.
• • •
ذهبنا إلى الأقصر، واتجهنا إلى معبدالكرنك، وسط الكثير من التوقعات والأساطير والمحاولات المضنية منى لجذب انتباه أطفال العائلة وتنمية البذرة التى زرعناها منذ بضعة أشهر للتعرف على تاريخنا وعراقتنا.
طلبت من المرشد الخاص بنا التركيز على جوانب الشرح التى تجذب انتباه الأطفال حيث لم تكن هذه زيارتى أنا وزوجى الأولى وكان الهدف الأساسى من الرحلة أن يتعرف أطفال العائلة على تلك المزارات التى ألتف العالم ليشاهد الاحتفال بها. وبدأ المرشد الذى بدا عليه معرفة كبيرة بالمزارات والتاريخ شرحه. حكى لنا عن معمار الكرنك، وعن الإعجاز الهندسى لمختلف المزارات، وعن مسمى الكرنك، والتواريخ المختلفة. وشد ذلك انتباهى أنا وزوجى، ولكنه للأسف لم يشد انتباه بناتى وابن أخى الذين لم يتعدوا السبعة أعوام. وبدأوا يملون، فلجأوا إلى تسلق الأحجار وسط سيل من التعليمات منى عن أهمية احترام الآثار. ثم بدأوا بالنبش فى الرمال، ليتعرضوا مجددا لمحاضرة منى عن إثارة الأتربة وإزعاج الزائرين.
تخيلت أنهم سيصبحون فى حالة انبهار فور دخولهم المعبد، كما ننبهر نحن الكبار: ولكنى كنت بعيدة كل البعد عن الحقيقة. فبالنسبة للأطفال، لا يوجد أى عوامل إبهار فى صخور ونحوت قديمة، والاهتمام والانبهار بتلك الآثار لا يأتى بالسليقة أو تلقائيا. فهم يحتاجون إلى من يداعب خيالهم ليتصوروا كيف عاشت تلك الأمم، ومعلومات تثير فيهم روح المغامرة. والحديث عن معمار الكرنك بات أشبه لهم بدرس ممل بدون نكهة طفولية.
وهنا استحضرت طفولتى، وتذكرت انبهارى بأساطير الحياة الأخرى لدى قدماء المصريين، وبالنزاعات على الحكم، وبلعنة الفراعنة. وقررت أخذ زمام الأمور، وبدأت أحكى لهم عن أسطورة إيزيس وأوزوريس، وأشرت لهم إلى الرسومات المختلفة التى ترمز إلى أبطال القصة. فالتف الأطفال الثلاثة حولى، وكفوا الإلحاح على التليفونات المحمولة، وتركوا اللعب بالرمل، وباتوا يسألونى عن مصير الإله ست، وماذا فعل حورس ليسترد عرش أبيه، وكيف تحول ست لفرس نهر، وأصبحوا فجأة فى قلب أسطورة، يتخيلون كيف جاب أبطالها نواحى تلك الأرض، وطلبوا شراء تماثيل أبطال القصة، وسألونى عن المزيد من قصص الفراعنة، فحكيت لهم عن حتشبسوت ونحن أمام مسلتها وكيف أصبحت أول حاكمة لعرش مصر حيث كان تحتمس الثالث صغيرا، وكيف صورت نفسها بصورة رجل وقالت إنها ابنة الإله، ثم كيف استرد تحتمس الثالث العرش بمساندة من حولها ودمر اسمها من الآثار ليمحى تاريخها، وكيف لم يقدر فعل ذلك بالمسلة. وحكيت لهم عن ريشة الإلهة ماعت واعتقادهم أن بعد الموت، يوضع قلب المتوفى فى ميزان مع ريشة ماعت لتحديد ما إذا كان مصيره الراحة الأبدية أم الشقاء. وأمضينا فى حكاوى وأساطير الملوك والآلهة الفرعونية، وزاد التحمس لزيارة وادى الملوك فى اليوم التالى والتعرف على الإلهة نوت فى المقابر، وعلى التوعدات لسارقى قبور الفراعنة واللعنة التى اعتقدوا أنها ستلحقهم. وهكذا، وببعض من الخيال والكثير من الإلقاء الدرامى، وبرشة خفيفة من الأداء الفكاهى فى تصوير حتشبسوت بصورة رجل، بتنا بقلب أسطورة حية، ومغامرة تاريخية نتعرف على خباياها وأبطالها. ونمت البذرة بعض الشىء، واحتلت قصة إيزيس وأوزوريس الموقع الأساسى لقصة قبل النوم لدى بناتى، وقال ابن أخى لأمه إن حكاوى قدماء المصريين هو أكثر شىء مشوق بيومه فى أول أيام رحلتنا فى البحث عن الهوية.
• • •
أيقنت أنه من الممكن، بل ومن السهل، الاستحواذ على انتباه واهتمام جيل النتفليكس؛ ولكن علينا بذل القليل من المجهود لمعرفة جمهورنا كما يقال، ومن ثم للبحث عن زوايا من تاريخنا مناسبة للأعمار المختلفة لأطفالنا، وما أكثر تلك الزوايا فى تاريخ وحضارة ثرية كالتى نملكها. والتقصير فى ذلك مسئوليتنا جميعا، بدءا من صانعى المحتوى الترفيهى والإعلامى الذين تركوا الفجوة بينهم وبين أجيال صاعدة تزيد وتمتد، إلى المرشد الذى لم يعر أى اهتمام بترجمة محتواه للجمهور الذى يصاحبه ليتحدث باللغة المناسبة لفكره واهتمامه، وحتى الأهل الذين تركوا مسئولية تثقيف أولادهم للمدرسة والنتفليكس فحسب.
نادين السيد أستاذ مساعد بقسم الإعلام في الجامعة الأمريكية
التعليقات