«الغابة والقفص».. مُثقلون بالتفكير والوحدة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الغابة والقفص».. مُثقلون بالتفكير والوحدة!

نشر فى : السبت 15 أكتوبر 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 15 أكتوبر 2022 - 8:50 م
هذه الحكايات مثيرة للتفكير والدهشة والتأمل، بالإضافة إلى تعدد الدلالات، وثراء المعانى، قد تبدو تفاصيلها بسيطة، ولكنها ليست كذلك.
القصص وعنوانها «الغابة والقفص»، لمؤلفها طلال فيصل، والصادرة عن دار الشروق، تمثّل متتالية قصصية، يجمعها سياق سردى واحد متداخل ومتسلسل، ومن خلال تيمة مشتركة:
شخصيات مثقلة بتفكيرها ووحدتها ووساوسها ومتاعبها، تلجأ إلى طبيب نفسى، تنشد المساعدة لكى ترتاح، والطبيب نفسه يبدو مثلهم فى القصة الأخيرة، وحيدا ومؤرقا وممتلئا ببعض العبث واللا جدوى.
لا علاج فى كل الحالات، ولا خلاص للطبيب من الدائرة التى أخذته من مستشفى قصر العينى إلى أوروبا إلى المستشفى الخاص، سواء للدراسة أوللعمل، ليستمع إلى كل هؤلاء غير المتكيفين مع واقعهم، ومع علاقتهم بالآخر.
المتتالية القصصية سرد يقع فى منطقة وسطى بين القصة القصيرة والرواية، تُقرأ كل قصة منفصلة، ولكن هناك لحنا واحدًا ينتظم الحكايات، مع استقلال فى البنية السردية لكل حكاية.
وجود قصة أخيرة تعبر عن صوت الطبيب، لا يعنى أننا أمام بناء روائى، ولكنها حكاية جديدة، يمكن أيضا أن تُقرأ منفصلة.
الطبيب يجمّع الحكايات، ولكنه لا يحلها، ولا يصنع منها خيوطا متداخلة، فتظلّ فى بحر القصة، وعلى شاطئ الرواية. هذا اختيار موفق، لأن المتاعب النفسية تعزل كل شخصية عن الأخرى، حتى الطبيب يتأملها من خارجها، ويبدو أحيانًا متسليا ومندهشا، ينظر إلى ساعته لإنهاء الجلسة.
الفكرة كلها تأمل وتورط، ووصف الحالات يصنع دلالات عجيبة، ليست نفسية فحسب، ولكن أيضا اجتماعية وسياسية ووجودية.
أتاح هذا الشكل أيضًا أن تكون هناك حكاية رمزية ضمن المجموعة، هى حكاية «الغابة والقفص»، التى يحمل الكتاب عنوانها، وهى أمثولة تصلح أن تكون عنوانًا على الوجود الإنسانى، وعلى لحظة التطور الفاصلة، عندما ألح القرد على أن يكتشف إبهامه، وأن تكون له لغة منطوقة، ذلك الطموح الخارق جعله فى مستوى آخر، ولكنه لم ينقذه من حيرته بين الغابة والقفص، ولم يجعله يتخفف من وطأة تاريخه القديم، وكأننا أمام كائنات محكوم عليها بالحيرة والمتاهة، مهما تغيرت أو تطورت، شكلا أو موضوعًا.
هذا البناء مناسب لأنه يفكك الحالات ويعزلها ويتأملها، وتنوّع بنية السرد لكل قصة كان ملائما أيضا لكل حالة، فالطبيب لا يحكى كل الحكايات، لأن المرضى يشاطرونه الحكى، سواء بصوت مسموع وظاهر، فى صورة حوار واعتراف، أو بصوت الهاجس أو الباطن، بل وتختفى علامات التنصيص فى كلامهم مع الطبيب، بما يعنى أن الطرفين على مستوى واحد.
ليست هناك هذه الهيمنة الكاملة للطبيب على السرد، مثلما تعودنا فى قصص المرضى النفسيين، وليست هناك حلول أو علاجات أو نهايات من أى نوع، ولدينا ما هو أهم وأكثر ذكاء وفنية، وهو المزج بين ملامح مرض نفسى مسجل فى الكتب الطبية، كالوسواس القهرى مثلا، وبين مضمون يختبر أفكارا هامة كالحقيقة، وكالإحباط العام، وكالذائقة الأدبية، وكالعلاقة بالآخر، وكالانتقال من غربة ذاتية، إلى غربة مكانية، وكلها معالجات شديدة البراعة فى إتقانها الفنى، وفى ذوبان فكرتها فى نسيج التفاصيل والشخصيات.
معظم الشخصيات تعانى من صعوبة التواصل مع الآخر، ومعظمهما تتحول عزلتها الاجتماعية إلى تفوق دراسى، فلا ينقذها ذلك من الإحباط، وهناك أكثر من قصة تتحرى صورة الأب، سواء بمعناه المباشر، أو بمعناه المجازى.
فى إحدى القصص شاب يوجّه زميله إلى القراءة، أى أنه «أب أدبى»، وهناك حكاية عن شيخ وواعظ شهير، بمثابة «أب» ومرشد قديم للسارد، وهناك «أب صارم» هو أستاذ جامعى متلون ومتعجرف يصيب «أبناء» دُفعة كاملة بالمرض، فيذهبون جميعا إلى الطبيب، وفى قصة «الغابة والقفص» قرد حكيم مستسلم، بمثابة «أب بديل» للقرد الشاب المتمرد.
يمكن قراءة الحكايات بأكملها كذلك باعتبارها محاولة فاشلة للتكيف مع الواقع، بسبب عدم الاستعداد له، وبسبب أدوار الآخرين الأقوى والأكثر سلطوية وتاثيرا، أما تعدد الدلالات، فهو ناتج عن ثراء الفكرة، وحرفية الكتابة:
قصة مثل «الطريق إلى البيت» تحتمل ما يتجاوز علاقة أب وابنه الصغير، إلى تأثير الراعى والمراقب والمرشد، الذى يمكن أن نتوه بدونه، وقصة «أربع حكايات ساحرة عن tinder» تتجاوز العلاقة مع المرأة، إلى الفشل فى الخروج من الذات، وقصة «كراسة الحقيقة» تحتمل معنى أهم عن ازدواجية المثقف عموما، وعقابه عن إغفال البوح بالحقيقة، وقصة «هوس خيرى شلبى»، وهى درّة المجموعة، تسخر من منهج القراءة ومن سلطة الاسم والنص وآباء المعرفة، و«دُفعة الغضب» مرثية لجيل شوهه أستاذ مشوّه، و«خرف الشيخوخة» إعادة تفكيك لسلطة المشايخ، ولهشاشة العقل، و«الغابة والقفص» تأمل عن أصل الحكاية، وعن ذلك المأزق المتواصل، فكل طموح يصنع تطورا، وكل تطور يزيد المأزق، ويجعل السؤال أكثر تعقيدا، لا نتوقف عن الطموح، ولا تنتهى الأسئلة الصعبة، التى نعجز عن حلها، وكل الحالات فى المجموعة ليست سوى أسئلة صعبة، لا تجد إجابات.
وفى القصة الأخيرة، التى ينفرد فيها المعالج بالصوت وبالشكوى، تبدو الدائرة محيطة بالجميع، ويتأكد معنى المساواة فى الحيرة، ويصبح السجن بحجم الحياة، ويبدو كما لو أن هناك سجنا لكل مرحلة من مراحل حياتنا.
كتب طلال فيصل هذه الحكايات بحرية تستحقها، يقول فى قصة «الغابة والقفص»: «ما نفعُ معرفة نوع الحكاية أو تصنيفها إن كان غاية ما نطمح إليه هو أن تكون الحكاية مقنعة، تحتفظ باهتمام المستمع إلى النهاية، ثم أن تكون لها بعد ذلك دلالة أكبر، ولو قليلا، من حدود شخوصها وأحداثها الضيقة».
أحسبُ أن هذه الكلمات هى قانون السرد كله، وأحسبُ أنه فعل ذلك بامتياز، وإن لم يمنعنا ذلك من التصنيف، ذلك أن الشكل فى النصوص الناضجة هو المضمون نفسه، وهو الوسيلة والغاية معا.
وهذه حكايات تعرف أفكارها، وتعبّر عنها بكل نضج وتفرّد.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات