نشر موقع عروبة 22 مقالًا للكاتبة بشرى زكاغ، توضح فيه أننا أمام تحول جذرى فى شكل الحوكمة العالمية تقوده «إنترنت الأشياء» وتحالفات خفية بين شركات التكنولوجيا وأجهزة الاستخبارات، بحيث لم تعد الإرادة البشرية وحدها هى من تقرر مستقبل المجتمعات، بل تحل محلها خوارزميات ذكية، ما يُنتج شكلًا جديدًا من السيطرة السياسية والاقتصادية يُعرف بـ«حكومات النفوذ الخفى».. نعرض من المقال ما يلى:
مطلع عام 2022، شهد العالم تحوّلاتٍ جذريةً مع صعود نجم ما سُمّى «إنترنت الأشياء» باعتبارها شبكة من العقول الاصطناعية والأجهزة الذكية الموزّعة حول البشر وتتبادل البيانات حولهم فيما بينها. وسريعًا أدّت التطوّرات المتلاحقة التى شهدتها هذه الأجهزة فيما يخص القدرة على الإدراك والتعلّم الذّاتى والتحليل والاستقلالية فى اتخاذ القرارات، إلى تزايد الإقبال عليها، بدلًا من التصورات اليوتوبية والأحلام الطوباوية بحياة أفضل، وشعوب أكثر حريّة وديمقراطية، ونُظم تكنولوجية أكثر قدرة على مواجهة التحديات البيئية والمخاطر وندرة الموارد الطبيعية والمالية.
تؤكد المعطيات الميدانية توجّه «إنترنت الأشياء» نحو حوكمة الحياة اليومية على كوكب الأرض بعيدًا عن الإرادة الواعية للبشر، عبر آلة ذكية موزّعة بين مئات وآلاف الكائنات الذكية الصغيرة الموزعة حولنا، تراقب وتحلل وتنفذ من تلقاء ذاتها سواء محليًّا أو عالميًّا عبر إرسال بياناتها إلى السحابة، لأنّها قادرة على الوصول السريع وإلى كل مكان، ما يجعل التحكّم الآلى منتشرًا، والسلطة غير معروفة.
هذا الشكل الجديد من الحوكمة الآلية يتقاطع مع ما وصفه بارلو بـ«حكومات النفوذ الخفى». وعندما تحدّث بارلو عن النفوذ الخفى الجديد والآخذ فى الظهور بتسهيل وتواطؤ من المجتمع التكنولوجى الحالى، كان يشير بالأساس إلى اتساع وزيادة سطوة الطبقة العميقة من البيروقراطية الأمنية والاستخباراتية وشركات التكنولوجيا، التى تتوسّع فى مراقبة الدول والمواطنين وتوجيههم عبر الأجهزة الذكية الموزعة من حولهم، وعبر الشبكات الاجتماعية والمحتوى الرقمى، بغرض السيطرة على العالم المادى والفضاء الرقمى معًا.
ولئن كانت الحكومات التقليدية قد تشكّلت سابقًا من فاعليين تقليديين (وجهاء وسياسيون، وقادة أمن) وتستقى شرعيتها من قدرتها على ضبط النظام فى ظلّ الدولة القومية، فإنّ "حكومات النفوذ الخفي" اليوم تجمع فى جوفها تحالف أجهزة الأمن والاستخبارات إضافة إلى شركات التكنولوجيا العالمية بغرض السيطرة على تدفق المعرفة والمعلومات، بما يخدم مصالحها وتوجهاتها. ما يؤكد وجود شبكة معقّدة من البيانات الضخمة والدقيقة، وخوارزميات الذكاء الاصطناعى المُشبعة بالتفاعلات والتوجيهات التى تساعدها على التعلم الاجتماعى كما يُرادُ تشكيله عالميًا ومحليًا، قد تتحوّل فى أغلب الأحوال إلى مصائد للأنظمة والأفراد فى بيئات استبدادية غير آمنة تقرّر زمن الحرب وزمن السلم، عبر البيانات والمعلومات وليس حسبما تقرّره الإرادة البشرية.
لقد أصبحنا اليوم أمام حوكمةٍ عالمية ما بعد إنسانية، تقرّر فيها «إنترنت الأشياء» متى وكيف تكون الحرب، ثم تمرّرها للنظام السياسى ليشرعنها، ثم تنقلها للجهاز العسكرى لينفذّها.
شكّل ذلك اختراعًا ثوريًا للشركات والقوى العالمية والأنظمة السياسية، وحقق أقصى العوائد والمنافع الممكنة، لأنّه وفّر إمكانية الحصول على السلطة والهيمنة بكمّيات غير مسبوقة وبأقل تكلفة، اعتمادًا على البنية التحتية لـ«إنترنت الأشياء»، وخوادم الذكاء الاصطناعى، من ذلك مثلًا خادم الويب (Web Server)، خادم الملفات (File Server)، خادم قواعد البيانات (Database Server)، والخادم السحابى (Cloud Server).
من جهة أخرى، وفى سياق الأنظمةٍ السلطوية، حيث تُمنح الأولوية للحفاظ على الوضع القائم وحماية المصالح على حساب حقوق الأفراد المدنيّة، ومع أنّ أغلب الحكومات تؤكد سعيها الدؤوب نحو إقرار ديمقراطية تمثيلية واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير، إلّا أنّ الفشلَ فى تنزيلها يؤكد وجود «حكومات نفوذ خفى» عبارة عن شبكة أو مجموعة من الأشخاص والتيارات داخل الدولة وخارجها تتحكّم فعليًا خلف الكواليس فى القرارات السياسية والاقتصادية اعتمادًا على ما لديها من معطيات وبيانات، وتُعيد إنتاج شروط وجودها لاستدامة هيمنتها وبقائها فى السلطة، من دون أن تكون جزءًا واضحًا أو شفافًا من الحكومة المُنتخبة أو الرسمية. وتشمل عادةً كبار المسئولين غير المنتخبين، واللوبيات الاقتصادية والمالية، ومجموعات الضغط والمصالح، يُضاف إليها اليوم تحالف أجهزة الاستخبارات والمال والإعلام وعلى نحو عالمى.
واضح أنّ أغلب المشاريع -الآن- تحاول استثمار الذكاء الاصطناعى العميق والمتقدّم فى الصحة والتعليم والمدن الذكية، وخدمات المواطنين وإدارة الطاقة وجودة البيئة، لكن التكهّن بنجاعتها وقدرتها على بلوغ الأهداف تبقى غير واضحة، بالنّظر إلى التضارب الحاصل بخصوص التعامل مع مُخرجات الذكاء الاصطناعى (إنترنت الأشياء): ما بين نموذج أوروبى يسعى لحماية الخصوصية، ونموذج أمريكى يسعى لحماية حرية التعبير وتداول المعلومات.
النص الأصلى: