فى رحاب أمى - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى رحاب أمى

نشر فى : الجمعة 17 مارس 2017 - 10:35 م | آخر تحديث : الجمعة 17 مارس 2017 - 10:35 م
• جاءت تستدعينى لزيارة طبية منزلية لامرأة قعيدة، حينما طالبتها الممرضة بقيمة الزيارة خجلت وقالت: ليس معى سوى النصف، أشرت للممرضة بالقبول، سرت مع السيدة وابنتها للذهاب للمريضة، سألتها عن المريضة قالت: لديها مرض جلدى غريب، قلت لها: هل هى والدتك؟ قالت: لا قلت: هى إذن أختك الكبيرة، قالت: لا، ولكنها جارتى.

• قرأت الدهشة فى وجهى قالت: لا تعجب، فهى جارتنا تعيش وحدها وقد كبر سنها ولا تستطيع الحركة.

• قلت: أين أولادها؟ قالت: أولادها موجودون ولكنهم يعيشون بعيدا عنها، ولا تراهم أو يرونها إلا فى المناسبات، ونحن نهتم بها ونرعاها قدر استطاعتنا، وندخل عليها ونخرج، وكذلك بناتنا، رددت لها ما دفعته إكراما لها ولموقفها.

• غمرنى الأسى والحزن، دخلت بيتا متواضعا ثم شقة بسيطة ولكنها مرتبة ونظيفة، وجدت هناك جارة أخرى تعرفنى وتعالج أولادها الصغار عندى، قالت: تفضل، لقد جهزتها للفحص الطبى، تأملت وجه الأم فرأيته حزينا منكسرا، قلت لها هل تبكين كثيرا؟ لأن مرضك هذا من الحزن والاكتئاب، قالت: لا تنقطع دموعى على الإطلاق، فليس هناك شىء يستطيع إسعادى.

• قلت لها: تسامرى مع جيرانك، أو شاهدى التلفزيون، قالت: لقد سئمت كل شىء ولا يروق لى شىء.

• قلت لنفسى: هذه الأم حملت وولدت وأرضعت وربت وسهرت وتعبت وبكت وكابدت وتابعت أمراض أبنائها الصغار واهتمت بمستقبلهم ومذاكرتهم، فهل تكون الوحدة والألم والفراق هو مصيرها، ولعل أولادها الآن يمرحون ويضحكون فى المقهى مع أصدقائهم أو يتحدثون معهم بالساعات دون أن يكلف أحدهم نفسه أن يهاتف أمه ولو لبضع دقائق كل ليلة، أو لعل كل واحد منهم يمزح بالساعات مع زوجه وأولاده دون أن يدخر لحظات يتحدث مع أمه تليفونيا ويجعل أولاده يهاتفونها.

• تذكرت أننى ابتعدت عن أمى سنوات كرها، ولكننى أخطأت خطأ جسيما حينما غادرت أمى فى شيخوختها وعشت فى الإسكندرية وهى فى الصعيد.

• الأم تتعذب إذا سجن ابنها، وتتعذب أكثر بالخوف عليه بعد خروجه، خرجت فى الخمسين من عمرى، وأمى كانت تخاف على من مجرد السفر لبلدة قريبة، أيقنت أن بقائى إلى جوارها سيعذبها أكثر، لم تكن لى شقة بالصعيد وكان أولادى قد استقروا بالإسكندرية، كنت أريد أن أعيش بعيدا عن الدم والثأر والعصبيات والقبليات، ولكن كان ثمن ذلك فراق أمى.

• نظرت إلى مريضتى فإذا عليها آثار نعمة قديمة وأصل طيب لا تخطؤه العين، قلت لنفسى: هكذا تنتهى الحياة، تذكرت أن أمى رسمت سيناريو وفاتها بكل دقة قبلها، كنا نعيش جميعا فى بيت واحد، وكلما تزوج واحد هجر البيت الكبير، اعتقل سبعة من أشقائى كرهائن ومعهم أبى الذى كان أكثرهم حلما وصبرا ورضا، عامله العقيد أحمد عبدالونيس أفضل معاملة، ظل أبى يحفظ ذلك له طوال عمره، لا أدرى إن كان حيا أم ميتا، كان عبدالونيس نموذجا فريدا لضابط السجون.

• أصبح البيت الكبير هدفا دائما لحملات الأمن حتى بعد القبض على، حضرت إحدى خالاتى إحدى هذه الحملات رغم أن الجميع كان فى السجن وقتها، قالت لأمى: أنت جبل من الجبال، كيف تتحملين البقاء فى هذا البيت، لقد هرمت عشر سنوات من شدة الخوف الذى انتابنى فى هذه الدقائق العشر.

• غادر معظم أشقائى البيت الكبير، تعرضوا لمضايقات لا حصر لها، بعضهم فضل مغادرة المدينة أو المحافظة كلها، كان ذلك كله بسببى وبذنبى، لم يبق فى البيت الكبير سوى شقيقى الأصغر مجاهد الذى حماه وقتها من الاعتقال صغر سنه.

• كبر مجاهد كنا نظنه لاهيا عابثا فإذا به يحفر لنفسه دورا فى البر لم يصنعه أحدنا ممن يتخيل نفسه ملتزما أو متعمقا فى الدين.

• أصبح أبى قعيدا، وإذا بهذا البطل القادم من الهزل وأصدقاء الشيشة والمقاهى يشمر عن نفس غاية فى الكرم والجود، يحمل أبى كل يوم فوق ظهره لينظفه ويغسله و«يحميه» كما يقول الصعايدة.

• عندما حمله أول مرة شعر بألم شديد فى ظهره، دعا ربه بطريقته العفوية «يا رب ساعدنى على حمل أبى» وجد قوة غريبة سرت فى بدنه.

• خمس سنوات كاملة يعود فيها مجاهد ليلا من عمله فيباسط أبى ويمازحه، يحلق له لحيته وهو يقول: حتى لا يقبض عليك يا أبى. ثم يحمله مؤديا أثقل الواجبات نحوه.

• كان أبى لا يعجبه مسلك «مجاهد» فى البداية حيث لم يدخل كإخوته كليات مرموقة أو يسلك مسالك المتدينين، فإذا بهذا الذى كان لا يعجبه يصير فارس الأسرة الكبير فى البر والإحسان لوالده.

• كانت أمى تتولى الخدمة، ومجاهد يتولى حمله ورعايته، وأخى صلاح يتولى إضحاكه وممازحته، وكان أبى صوفيا حقيقيا كثير الذكر وكريم النفس متسامحا لا يحمل حقدا لأحد، ما دخل الشارع يوما إلا وهو يمازح هذه الطفلة ويداعب هذا الشاب ويدعو لهذه الفتاه، مات أبى بعد معاناة شديدة مع المرض، لم يعاود مجاهد ألم ظهره إلا بعد موت أبى.

• جاء موظفو البريد الذين كانوا يعملون معه، قالوا: والدكم لم يتغيب يوما عن عمله، حتى الإجازات السنوية كان يعملها، حسب شقيقى أيام الإجازات التى عملها فوجدها توازى وقتها 16 ألف جنيه، حصلها بعد المعاش عن طريق قضية إدارية بسيطة.

• نعود إلى سيناريو وفاة أمى التى ذكرته قبل وفاتها بوقت طويل لمجاهد أقربنا إليها قلبا وجفرافيا: سأتوضأ وأصلى العشاء ثم أنام على جنبى، بعد أن أغلق باب البيت الكبير الذى أعيش فيه وحدى، فأموت، فيأتى مجاهد فيطرق الباب دون رد فيصعد إلى البيت المجاور ويقفز ويدخل فيجدنى ميتة فيستدعى الأسرة كلها.

• نفس السيناريو هو الذى وقع، ماتت وبيتها منظم، والأطباق نظيفة، وكل شىء فى مكانه، أذهب اليوم إلى بيوت فتيات صغيرات فأجدها فى قمة الفوضى والإهمال.

• سأقول مرارا اغفرى لى يا أمى كل ذنوبى، ما علمت، وما لم أعلم وتعلمينه عنى، كل الذى استطعت أن أقدمه لك هو رحلة الحج، أدركت شيئا واحدا من واجبك وأنت أدركت كل شىء، ولم تقصرى أبدا مع أحد، سلام على أمى وعلى كل الأمهات.

 

التعليقات