لو طلب منى أن أختزل الحياة فى مشهد واحد فالمشهد الخاص بى سيكون مائدة غداء جلس حولها أشخاص من أجيال ثلاثة. ستكون طاولة مستطيلة طويلة تتسع لنحو عشرين كرسيا، ربما أكثر، تطل عليها وجوه من أعمار مختلفة يجلس أصحابها دون ترتيب معين، أى يجلس الجد قرب مراهق وتجلس سيدة بجانب شاب وطفلة قرب جدة وشابة مع شاب آخر. هى مائدة ملونة جدا بالأصناف وبالأحداث. فى الخارج حدث سياسى كبير ينعكس فى الداخل على الحاضرين فكلماتهم متسارعة وكثيرة وقصصهم فيها توتر وترقب.
•••
شىء كبير يحدث خارج البيت وشىء كبير يحدث فى داخله أيضا حول الطاولة. تخرج الكلمات من الأفواه فتتحول إلى حروف ترقص فوق الرءوس، هلا تخيلتم معى المشهد؟ رءوس وكلمات وطرطقة الأوانى ورائحة الطبيخ. الحركة هى أياد تنقل الأطباق، دخان وروائح تنضم إلى الأحرف فتظهر الكلمات وتختفى وتظهر من جديد برائحة التوابل التى عطرت هذا الطبق أو ذاك.
•••
يختلف من على الغداء حول موضوع يعتبره البعض مركزيا بينما يضجر منه الشباب الحاضرون. تطلب الطفلة شيئا من الجدة فتعطيها الجدة ما تريد دون تفكير وتنهرها أم الطفلة بعتب، إذ كثرت طلبات الطفلة. تتجاهل الجدة الأم، هذا دور الجدة ولن تناقش ابنتها فى تفاصيل التربية والطعام الآن، «حبكت يعنى؟».
•••
الحدث فى الخارج كبير، لماذا لا يهتم له كبار العمر ممن هم حول المائدة؟ «يا ما شفنا». يرفع الشاب حاجبيه فها هو الجد يقلل من قيمة ما يحدث. الحدث كبير لمن خرج إلى الحياة السياسية للتو، وأقل رهبة لمن تعارك مع السياسة مرات من قبل. تتضارب كلمات اليافعين حول المائدة ويتذمرون من تعالى من سبقهم إلى السياسة. «لكن هذه المرة الموضوع مختلف» يقول أحدهم وهو يمسك بطبق ليغرف لنفسه مقدارا فى صحنه.
•••
هى مائدة غداء طويلة بطول قصة بلد شغلت جميع الجالسين. هى قصة تدخل عامها الحادى عشر وتشبه ولادة متعسرة يدلو كل منهم بدلوه حول إمكانية نجاحها. يختلف الحضور حول مراحل هذه الولادة ويشكك بعضهم بجدواها أصلا. الحديث يتسارع ويحتد، ينقسم الحضور، تستمر الأطباق بالحركة بين الجالسين. يقع طفل من على الكرسى فينشغل به من حوله ثم يعود الحديث إلى نبرة مقبولة.
•••
هذا مشهد متخيل لكنى عشته كثيرا فى السنوات الماضية وأظن أنه فعلا ما يختزل حياتى! السياسة والطعام واللمة، لمة الأصدقاء على مختلف أجيالهم وتجاربهم إنما تجمعهم بعض الأساسيات من حب الحياة وحب السياسة وحب الطعام. مائدة طويلة عليها أطباق صغيرة يختلف على أصولها أيضا من على الطاولة حتى أصبح المطبخ نفسه مادة للسياسة.
•••
المطبخ والسياسة: هل من موضوعين أكثر تلاصقا من هذين؟ أحب فكرة أن السياسة تطبخ على نار هادئة أو قد تحرق المطبخ بمن فيه. رشة ملح زائدة تخرب ساعات من العمل. نقص فى الثوم وها هى الطبخة باهتة. هل دخلت كل المكونات أم تم تجاهل مكون على أمل ألا يكتشف استبعاده؟
•••
أعود إلى مائدتى فقد حان وقت الحلويات. تراخى الجالسون فى كراسيهم قليلا وهدأت النفوس. هى ليست صلحا، هى هدنة فقط فرضتها البطون الممتلئة فهدأت الأفواه وقل الكلام. يبدو لى أن القهوة قد تكون الحل المناسب لمائدة بدأ النعاس يداعبها. هو وقت القيلولة للأطفال وللجدود والجدات. «أخيرا بإمكاننا أن نحكى» يقول الشباب بعد أن انسحب الأكبر والأصغر سنا من حولهم.
•••
هنا تعود الكلمات إلى الواجهة، والحماس والصوت المرتفع. فرغت بعض الكراسى من أصحابها فقد انتقلوا إلى أماكن أكثر راحة فى البيت. انكمشت المائدة قليلا على من بقى فيها لكنهم لم ينتبهوا وهم مستمرون بالحديث. لكن فى الحقيقة أن عددهم قد قل وربما لم يعودوا مأثورين بالطريقة التى يظنون. لا يهم، فمع الشباب يأتى الأمل بالتغيير، تغيير الدنيا وما فيها، وها هم يقربون الكراسى حول المائدة ويستمرون بالنقاش.
•••
عالمى هو موائد محتدة النقاش والطعام! أختزل عالمى بطاولة مستطيلة طويلة أجمع حولها أقرب الناس إلى قلبى وعقلى من أجيال مختلفة وأطبخ لهم أطباقا من تراث جدتىَّ الاثنتين. أستمتع جدا بقصص الطعام التى تندس فيها السياسة، كأن أعطى تفاصيل طبق من منطقة أو أحيانا طائفة من بلدى لنحكى عن عاداتها وقصصها. المطبخ والسياسة متلاصقان عندى، وكذلك لمة الأصدقاء. عالمى هو طاولة غداء تمتد لعدة ساعات فتنتقل فيه العواطف عبر مراحل النقاش، هو غداء فيه أحاديث جدية وسخرية من القدر، فيه ضحك وبعض الغضب، هو غداء فيه اختلافات فى وجهات النظر.
•••
عالمى مختزل فى يوم أمضيه فى المطبخ وأنا كساحرة أمام قدر من السحر: أرمى فى القدر بهارات وتعويذات سوف تحمى مائدتى من الزوال. عالمى هو هذه المائدة الطويلة أرص حولها وجوه من أحب وأحفظ أصواتهم لأركبها على الروائح: فلان حنون كرائحة القرفة، فلانة محتدة كالشطة، ها هو كصوت الكزبرة فى الزيت تداعب كلماته روحى، أما تلك فهى كالسكر المعقود طعمه حلو لكن أكله يؤلم الأسنان. حياتى مائدة وسياسة وأصدقاء.