فلتر الغربة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الأحد 8 ديسمبر 2024 2:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فلتر الغربة

نشر فى : الأربعاء 12 يوليه 2023 - 8:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 12 يوليه 2023 - 8:35 م

العودة، أو ذلك الطريق الملتوى المتعرج الذى أسلكه كل اليوم وأنا أبحث عن مكان أسميه «البيت». أختلف مع زوجى حول تصورنا، بالمعنى البصرى، لمستقبلنا. أنا أرى نفسى بوضوح فى مدينة عربية لى فيها أصدقاء ومعارف أقابلهم كل يوم. أدعو صديقاتى للجلوس معى على شرفة الشقة، أستقبل وزوجى أصدقاء حول المائدة نأكل ونتحدث عن السياسة. سوف ننتقد وقد نشتم السياسيين، سوف نحزن على المدينة وتدهور وضعها، سوف نتذكر ما كنا نناقشه فى شبابنا، ثم سينتقل بنا الحديث إلى أولادنا المنتشرين فى الأرض وسوف نستغرب ضعف ارتباطهم بالمكان، بأى مكان، إذ لم ننجح رغم محاولاتنا فى فرض جذور لهم تعيدهم من أماكن أخرى.
• • •
أتصفح العالم الافتراضى فأراه مترامى الأطراف وتظهر لى أسماء فى بلاد لم تخطر على بالى من قبل. فى السنوات العشر الأخيرة انتشر أكثر معارفى حول العالم، سواء بطرق شرعية أم لا، بحثا عن فرص لحياة كريمة وبدايات جديدة. لكل أسبابه للرحيل، ومن لم يرحل لديه أيضا أسباب. كصديقة تذكرنى فى كل لقاء أنها لم ترغب قط أن تعيش خارج بلدها، أو صديقة أخرى لم تحاول أن تلتحق بأسراب المغتربين خارج بلدها رغم أنه، أى بلدها، معروف بتصدير أبنائه ممن يبرعون بالتجارة والفنون إلى العالم. هى قررت أنها من هناك وستبقى على مدى الحروب والانهيارات والثورات والتفجيرات.
• • •
أحب كثيرا قراءة أدب المهجر، نصوص كتبها من عاشوا فى الخارج، وصاروا ينظرون إلى بلادهم خلال فلتر الغربة والبعد. أحب غداء العيد مع ناس ليسوا أقارب إنما أكون معهم شعورا بالعيد وبالعائلة الممتدة. أحب الاتصال بأمى وأبى عدة مرات فى أسبوع للسؤال عن أمور حياتية يومية لا أريدها أن تفوتنى بسبب بعدى عن المكان.
• • •
هل تعرفون النظارة التى يستخدمها طبيب العيون حين يفحص نظرنا فيضع على وجهنا إطارا سميكا ويغير العدسة حتى نقول له إننا الآن نرى بوضوح؟ هكذا أرى «البلاد» عن بعد. تعلمت كلمة «البلاد» من الأصدقاء الفلسطينيين، فكل بلد فى منطقتنا هو عدة بلاد فعلا، أراها من خلال عدسة الغربة، أدخل «فلتر» بعد الآخر فى النظارة بمساعدة عامل الزمن، فمع كل مرحلة أقضيها بعيدة تزداد العدسة تمويها وتحلى «البلاد» بنظرى. ربما تأثر نظرى كثيرا بالبعد والعمر والشوق، ربما أحتاج فلاتر كثيرة فعلا لأتصالح مع ما دفعنى، والملايين الآخرين، إلى الرحيل.
• • •
أتساءل كثيرا عن الشعور بالانتماء إلى المكان، عن هوية مرتبطة بلغة، برائحة، بطعام، بفترة بعد الظهر حين يتكاسل أهل البيت وتدخل أشعة الشمس إلى المطبخ على خلفية رائحة صابون غسيل الأطباق وصوت غسيلها. هى ساعة بعينها يوم العطلة بعد وجبة الغداء وقبل فنجان القهوة، كان من سبقنى يقدس القيلولة لكنى لم أعتمدها رغم أننى أحب جدا تلك الفترة بعد الظهر.
• • •
أقرأ أحيانا كتبا لأولاد الجيل الثانى من العرب فى الغرب، أستمتع جدا بمقارنة شعورى بما يصفونه. أحاول أن أسقط كلماتهم على أولادى وأن أقدر مدى ارتباط أولادى بمكان، أى مكان، وهم يتنقلون معى ومع زوجى بسبب عملنا. أتخيلهم يعيدون تركيب حياتى يوما ما من خلال ملاحظات أدونها على أوراق كثيرة، فى دفاتر العمل، على ظهر فاتورة، على ورقة صفراء ألصقتها يوما داخل كتاب. قد يفهم أولادى من خلال القصاصات كم الشوق الذى حملته فى سنوات ترحالى لمكان لم أعد أعرف تماما موقعه الجغرافى بقدر ما أعرف شعورى فيه، حتى يكتشفوا أننى لم أعد أحدد مكانا بعينه على أنه «البلاد»، إنما أصف حالة: هو بلد طقسه عموما حار وشمسه جريئة، فوضوى إلى حد ما، لى فيه أصدقاء يشكلون شبكة أمان، عشت فيه مراحل مهمة فى حياتى وكانوا دوما قربى يساندوننى ويقفون بجانبى.
• • •
أظن أننى أبحث دوما عن ناس أشاركهم مرجعيات حياتية يومية، لا أحتاج أن أشرح لهم ساعة الكسل التى تتبع غداء العائلة، صوت مذيع على التلفزيون وحركة فى المطبخ لإخلاء الطاولة مما عليها، حديث سريع بين أم وابنتها بعد أن تفرق أفراد العائلة فأصبحتا وحدهما فى المطبخ وعلقتا على قصة أو شخص. صوت الزوج من الغرفة يسأل عمن تتحدثان، أليس نائما؟ على كل حال ليست القصة من شأنه ولن تجيب الابنة ولا الأم. رائحة القهوة بعد رائحة الصابون، الشمس حين تصبح حنونة بعد قسوتها عند الظهر، تماما كما تخف صرامة الأم مع تقدمها بالعمر.
• • •
فلتر الغربة قد يمحو بعض منغصات الطفولة والشباب، ويصبغ الرؤيا فيعطى الذكريات ذلك اللون المائل إلى البرتقالى الذى يظهر فى الصور القديمة. أحزن على جيل لن يعرف أهمية أن تصفر الصور كما تصفر أوراق الشجر فى الخريف. ما فائدة أن تبقى الصور الرقمية بكامل عنفوانها؟ كيف سيدخل على الصور الرقمية اصفرار الورق ذلك الشعور الدفين بطفولة اصفرت هى الأخرى؟ أعود من خلال هذه الصور إلى أماكن هى فى الحقيقة مراحل تبدو اليوم كأنها محطات فى طريق ضيق متعرج أسلكه وأعود أدراجى أحيانا بحثا عن شخص أو صداقة ذبلت عند زاوية علنا نتصالح، لأن فلتر الغربة غالبا ما يطرى القلوب.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات