لغتنا العربية.. بين الإهانة والاستهانة! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:45 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لغتنا العربية.. بين الإهانة والاستهانة!

نشر فى : الجمعة 19 أغسطس 2016 - 9:30 م | آخر تحديث : الجمعة 19 أغسطس 2016 - 9:30 م
فى مقالى المنشور يوم السبت الماضى بعنوان «سرطان إهمال اللغة العربية» لم أكن أتوقع ــ أبدا ــ هذا التجاوب الكبير الذى لمسته من قراء كثيرين، أكثر من رسالة تلقيتها تبث بعضا من همومها وشجونها عن اللغة العربية وواقعها، تعليقات عديدة ومداخلات بالعشرات على صفحتى على «فيسبوك» تناقش وتطرح وجهة نظرها فى الموضوع.
ما فاجأنى أنا شخصيا هذا الاهتمام الكبير، وهذا الشغف الصادق بلغتنا العربية، ليس بمنطق العنتريات الفارغة والشوفينيات العتيقة، بل بمنطق الغيرة الحقيقية والرغبة المخلصة فى ممارسة لغوية عربية فى حدها الأدنى من السلامة وسلاسة التعبير، تتجنب التقعر والاستسهال والركاكة والخطأ الفاحش.

فوجئت بأن «الهم اللغوى» يشغل بال الكثيرين ويحتل مساحة عريضة من تفكير أناس يحبون لغتهم فعلا، لا من باب الاستعلاء والنزعات العنصرية البغيضة، ولكن بمنطق الرغبة فى الوصول إلى أداء لغوى يتجاوز ما هو حاصل الآن، أداء لغوى مقنع بأدوات تعبيرية سليمة، أداء ينقل المعنى بوضوح ويفصح عن الفكرة ببساطة دون الوقوع فى غموض وإبهام مرده عدم الفهم وعدم الارتقاء بمستوياتنا اللغوية للدرجة التى تمكننا من ذلك.

وكان مما عرض فى هذه المناقشات ما طرحه البعض تأكيدا للرصد الذى قدمناه فى المقال، وتعزيزا لفكرة التراجع المخيف فى الأداءات اللغوية فى مؤسسات راسخة كالقضاء والخارجية والصحافة والإعلام. ولعل فى هذه القصة التى أوردها هنا، بنصها، نقلا عن الكاتب والقاص والمترجم بالأمم المتحدة الأستاذ حسام فخر، وهو كاتب قدير وقاص بارع، ما يكشف ويوضح بالمثال الكاشف والدليل الواضح الحال التى وصلت إليها ممارستنا اللغوية المعاصرة. كتب الأستاذ حسام فخر يقول:

«أثناء عملى فى أحد المؤتمرات الدولية جاءنى بيان مصر لترجمته. وجدت فيه الجملة التالية:

«يساور مصرُ قلقا بالغا».

لم أتمالك نفسى، وتخطيت كل حدود اللياقة، وذهبت غاضبا إلى سفيرنا (الذى سمعته مرارا يتحدث الانجليزية والفرنسية بطلاقة ودون خطأ) وقلت له:

ــ كيف يمكن أن ترد جملة كهذه فى بيان مصر بلد الأزهر ومجمع اللغة العربية؟

لدهشتى البالغة رد على:

ــ وما الخطأ فيها؟

ــ سيدى «القلق» فى هذه الجملة فاعل، والفاعل فى حدود علمى يجب أن يكون مرفوعا، ومصر مفعول به أى يجب أن تكون منصوبة.

تحولت دهشتى إلى ذهول وهو يرد قائلا:

ــ كيف؟ القلق جماد وغير عاقل. هل يُعقل أن يكون الجماد فاعلا ومصر مفعولا به؟

قلت:

ــ إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ. إذا كان الله جَل وعلا يمكن أن يكون مفعولا به لفاعلٍ هو العلماء من عباده البشر الفانين، فأعتقد أن مصر ليست أجل منه مقاما.

قال باستخفاف (ولسان حاله يستنكر إزعاجى له بتعقيدات قواعد تلك اللغة المتخلفة):

ــ طيب يا سيدى، منكم نستفيد.

وعندما أدلى ببيانه، قرأ الجملة كما هى من دون تغيير».

هذا مثال صارخ على ما قلناه وأشرنا إليه، لقد مر على ما كتبه الأستاذ حسام فخر خمس سنوات بالتمام (22 أغسطس 2011)، وإذا كان السفير الذى تعامل مع تصويب الأستاذ حسام فخر بقدر من الاستخفاف والمناقشة التى أبدت شيئا من التعالم يدارى به جهلا، فإن الحال الآن وصلت بكثيرين من السفراء والوزراء والمسئولين، فى أى موقع كان، إلى عدم الالتفات بالكلية إلى المسألة اللغوية؛ كيف يتحدث وكيف يقرأ وكيف يتلو بيانا مكتوبا وكيف يجيب على أسئلة الصحفيين، وكأن لسان حالهم يقول «لا تصدعونا.. يكفى أننا نحدثكم وكفى!».

قطاع عريض ممن يعانى من هذا المرض؛ ضعف الأداء اللغوى (وربما انعدامه بالمرة!) يحاول أن يواجه عجزه البين فى هذه المسألة ويقول: هل انتهت كل مشكلاتنا وأزماتنا حتى تصدعونا بتعلم اللغة العربية؟ أو يأتى آخر وليكن فى مجال القضاء أو القانون، فينظر إلينا شزرا ويقول «إنكم سخفاء تافهون.. مالى أنا واللغة العربية؟ ألا يكفى أننى أقرأ وأدرس وأفحص الأوراق وأصدر الأحكام وأتلوها.. ويأتى واحد منكم ليحدثنى فى فتحة وضمة وشدة.. إنكم لتافهون!»..

والله هذا لسان حال الأغلبية الذين ينكرون علينا أن نواجههم بهذا، والرد على هؤلاء ببساطة شديدة جدا يعود إلى فكرة غاية الوضوح؛ إذا كانت اللغة التى نتحدث بها ونقرأ بها تحكمها مجموعة من القواعد المنظمة كى نصل فى النهاية إلى فهم تام وكامل للمعنى، فحكم الفاعل غير المفعول وحكم المبتدأ غير حكم المضاف إليه، وفى النهاية المعنى هو الهدف والغاية. فهل تريد أن تقنعنى بأن شخصا يقرأ أوراقا ويتحدث لغة ويكتب بها يفتقد لأبسط قواعد إجادتها ومنطق إحكامها كيف يمكن أن يصل إلى معنى تام ومكتمل وصحيح فى ما يقرأ أو يكتب؟ بالله عليكم كيف؟

إنى لأكاد أشك فى قدرات أى أستاذ أو دارس للعلوم الإنسانية بشكل عام (أدب، نقد، فلسفة، قانون، اقتصاد، علوم سياسية، إعلام، اجتماع.. إلخ) إذا كان مستواه اللغوى متواضعا أو لم يصل إلى الحد المطلوب كى يستطيع أن يقرأ ويكتب بشكل سليم (أكرر بشكل سليم وليس جميلا ولا بليغا فهذا مستوى آخر له موضع آخر من الحديث).
وأجدنى هنا أعود مرة أخرى إلى الاستشهاد بما كتبه الأستاذ حسام فخر قبل خمس سنوات تحت عنوان «لغتنا الجريحة»، كتب:

«قد يقول قائل: وهل انتهينا من مشاكلنا والأخطار الجسام التى تحيق ببلدنا حتى نكرس جزءا من طاقتنا وقسطا من وقتنا لترف سلامة اللغة وصحتها؟ أرد على هذا بقولى إن مشاكلنا لن تحل إلا بفكر سليم، واللغة وعاء الفكر، والفكر لا يعبر عن نفسه إلا باللغة، ركاكة اللغة وركاكة الفكر لا ينفصلان، كيف لخطابٍ سقيم لا يعنيه أن يميز بين الفاعل والمفعول، بين الأداة والهدف، أن يرسم طريقا لتطور أو نهضة؟

كيف لمن يبذل الجهد كل الجهد لإتقان لغة أجنبية ثم يستنكف أن يبذل جهدا مماثلا للتمكن من لغته الأم أن يضع تصورا لمستقبل تكون فيه كرامة الأمة فوق كل اعتبار؟ كيف لمن لا يحسن نطق إلا الموروث الذى يحفظه عن ظهر قلب ولا يستطيع أن يعبر عن أفكاره الخاصة بلغة صحيحة أن يتخلى عن التقليد وينطلق بجرأة فى طريق التجديد والابتكار؟

والمفارقة المريرة هى أنه كلما تحدث أحد عن تطوير اللغة العربية وتبسيط قواعدها، هبت فى وجهه عواصف غضب تتهمه فى إيمانه وتصمه بتبنى خطة خفية هدفها النهائى قطع الصلة بين الناطقين بالعربية ولغة القرآن الكريم المقدسة. بربكم لو لم تكن مقدسة، ماذا كنتم بها فاعلين؟».

فى ظنى أن ما كتبه الأستاذ حسام فخر يتجاوب بحرارة وصدق مع ما كتبته سابقا، نحن فى حاجة إلى أن نسير فى طريقين متوازيين معا؛ الأول الارتقاء بالمهارات والقدرات اللغوية الضرورية واللازمة لأداء فصيح وممارسة لغوية سليمة وواضحة، والثانى تخليص هذه اللغة من كهنوت التقديس والتحنيط الذى يمارسه البعض تارة باسم الدين وتارة باسم التراث وتارة ثالثة باسم السلف!