سميحة أيوب «عصر من الفن» - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 15 يونيو 2025 11:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

سميحة أيوب «عصر من الفن»

نشر فى : السبت 14 يونيو 2025 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 14 يونيو 2025 - 9:10 م

برحيل سيدة المسرح العربى؛ الفنانة الكبيرة سميحة أيوب (1930-2025) التى غادرت عالمنا الأسبوع الماضى، ينطوى عصر من الفن والجمال والإبداع، عصر من الرقى والفخامة والأداء الرصين والموهبة المتفجرة والأعمال الرائعة..
فى نظرى لم تكن السيدة سميحة أيوب مجرد ممثلة عظيمة وقامة شامخة من قامات المسرح القومى إحدى أذرعنا الثقافية الناعمة، ذات التاريخ وذات العراقة وذات المجد، ولم تكن مجرد ممثلة أدت أدوارًا لا تُنسى فى السينما والتليفزيون والراديو، لقد كانت جماعًا لعصر اكتملت فيه أركان الموهبة والإجادة والإتقان، فكان هذا التاريخ الباذخ الذى صنعته سميحة أيوب قرابة القرن من الزمان.
حباها الله الموهبة فطرية فى التمثيل والأداء والتقمص والتشخيص، وحباها الله القدرة على العمل المتواصل والدؤوب ومواجهة الظروف والتحديات، والوقوف بثبات فى وجه الأزمات، وحباها الله صوتا مميزا، عميقا، قادرًا على الوصول إلى قلب مستمعه بكل بساطة وشغف وقبول (لا أنسى دورها المذهل فى المسلسل الإذاعى الجميل المأخوذ عن رائعة نجيب محفوظ «الحرافيش»؛ الحكاية الأولى عاشور الناجى).
ومنحها الله حضورًا واستجابة واسعة من قبل الجمهور؛ سواء كان جمهور المسرح أم السينما أم التليفزيون أم الإذاعة، وأظن أن المساحة تضيق على حصر أدوارها الرائعة التى لا تنسى منذ أول ظهور لها على الشاشة أو الخشبة أو من خلال أعمالها حتى المتأخرة فى السنوات العشر الأخيرة قبل الرحيل.
(2)
قامة كبيرة بكل ما تعنيه الكلمة، وتاريخٌ حى وعامر بالأعمال المبدعة؛ مسرحيات كلاسيكية وحديثة ومعاصرة، وأفلام ومسلسلات.. وعمر امتد ليشهد ويعاصر تاريخ مصر فى القرن العشرين؛ منذ عصرها الملكى، ومرورًا بما تعاقب عليها بعد يوليو 52 وحتى رحيلها فى 2025.
على صفحته الزاخرة على «فيسبوك»، ينشر صديقى الناقد الكبير محمود عبد الشكور صورة نادرة لسميحة أيوب، والفيلسوف الفرنسى الشهير «جان بول سارتر» يتقدم لمصافحتها بحرارة وإعجاب غامر، بعد أن شاهدها وهى تقوم ببطولة مسرحيته الشهيرة «الذباب» أثناء زيارته للقاهرة فى مارس 1967.
ويعلق عبد الشكور قائلًا «انبهر سارتر بأداء سميحة، تلميذة زكى طليمات النجيبة، وتفاصيل الحكاية تجدونها كاملة فى مذكراتها الضخمة والمهمة الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب والتى أعتبرها من أبرز ما كتب عن مسيرة الفن والحياة فى عيون ممثلة مصرية وعربية استثنائية».
هذه اللقطة (إن جاز التعبير) تمثل مفتاحًا أساسيًا فى فهم تجربة سميحة أيوب الفنية والإبداعية، إنها فنانة من طراز رفيع، تربت فى حجر «المسرح، أبو الفنون»، واكتملت أدواتها وقدراتها فى رحابه، وبلغت ذروة النضج فى الأداء والتشخيص وهى ما زالت فى ريعان الشباب (كانت فى السابعة والثلاثين وهى تقوم ببطولة مسرحية سارتر).. ولك أن تراجع أدوارها التى لا تُنسى فى: «سكة السلامة»، و«السبنسة»، و«فيدرا»، و«الوزير العاشق»، و«السلطان الحائر».. وغيرها الكثير والكثير. ولا ننسى أنها تولت إدارة المسرح الحديث عام 1972، ثم إدارة المسرح القومى لمدة 14 عامًا، لتكون أول سيدة تتولى هذا المنصب فى تاريخ المسرح المصرى وربما العربى أيضًا.
(3)
أما إذا أردتَ أن تعرفَ المزيدَ عن حياتها الخاصة، وتجربتها الإنسانية العامرة، فأعاود الإحالة إلى مذكراتها الضخمة، وسيرتها الذاتية المهمة الصادرة قبل سنوات عن هيئة الكتاب. لكنى أضيف إلى هذا المصدر الخصب والغنى مصدرًا آخر مهما راكمته سيدة المسرح العربى على مدى سنواتها العشر الأخيرة، وهو حواراتها الحية المسجلة على شاشات الفضائيات؛ ما من حوار لها خلال هذه السنوات إلا وتحدثت فيه بروح الحكمة والصدق والتأمل؛ صريحة جريئة لا تهاب الحقيقة، لا تخشى الاعتراف بالخطأ، تراجع تجربتها كلها إنسانيا وفنيا وعمليا وكل شىء بعين فاحصة، ونفس راضية، وثقة من يعلم أنه ترك ما لا يندم عليه، بل يفخر به ويعتز به أيما اعتزاز.
تاريخ حى ومشرف ومتخم بالأعمال الرفيعة؛ على المسرح (بيتها الأول والخشبة التاريخية العريقة التى شهدت سنوات تألقها ومجدها وذروة إبداعها)، وعلى شاشة السينما (وبخاصة كلاسيكياتها الخالدة)، وفى الدراما التليفزيونية، وما لا يُعد من المسلسلات الإذاعية (أعمالها فقط فى هذه الدائرة تستحق كتابًا بأكمله). سيدة عظيمة، مثقفة، راقية، بدأبها وجهدها استحقت ذات يوم أن ينحنى فيلسوف الوجودية الفرنسى سارتر والمسرحى الكبير كى يقبل يدها.
(4)
سميحة أيوب لم تكن فنانة كبيرة فقط ولا أستاذة قديرة من أساتذة المسرح (وبخاصة القومى) وعمالقته فى زمن ازدهاره وتألقه، بل كانت «شاهدًا على العصر» بكل ما تعنيه الكلمة..
فنانة تعى تمامًا قيمة هذه الكلمة ومعناها، ولوازمها، فنانة «مثقفة» بالمعنى الحقيقى والأصيل، دون ادعاء أو تصنع (وما أكثر المدعين والمتصنعين فى هذا الزمان!)، كتبت شهادتها وسيرتها فى عمل ضخم يندر أن نقرأ عملًا مثله بهذه القيمة والأصالة والأمانة والنزاهة الفكرية والخلقية..
رحم الله سميحة أيوب، وأسكنها فسيح جناته..