. وما زلت مع خواطرى التى تتداعى حول كتاب «أيام لها تاريخ» للمرحوم أحمد بهاء الدين، الذى أستعيد لذة قراءته هذه الأيام لداعٍ بحثى، ولمشروع خاص بهذه النوعية من الكتابات التى دارت حول فترات من التاريخ المصرى، القديم أو الوسيط أو الحديث، بإعادة الصياغة أو بالاستلهام أو بإعادة القراءة والطرح والتفسير والتأمل!
لم تأتِ قراءتى هذه الأيام لهذا الكتاب من فراغ أو هكذا فى المطلق! الكتاب صدر فى طبعته الأولى عام 1954، وكان دون أن يقصد تدشينًا لظهور ما يمكن أن نطلق عليه تيار الكتابة التاريخية الموجهة لغير القارئ المتخصص، البعض يطلق عليه تيار المؤرخين الهواة، والبعض الآخر يطلق عليه تيار الكتابة التاريخية الصحفية.
وأيا ما كانت التسمية أو الاصطلاح، فقد جرى الاعتبار بأن كتاب «أيام لها تاريخ» قد أصبح نقطة فاصلة فى الإعلان عن ظهور هذا التيار أو هذه الكتابة، التى انتعشت وتطورت وازدهرت على يد مجموعة من أبرز الكتاب والصحفيين من مجايلى بهاء الدين أو من الأجيال التالية له، ولعل أبرزهم صلاح عيسى على سبيل المثال، ومحمود عوض، ومحسن محمد، وغيرهم.
ولعله قد صار من المعلوم أن جمهورًا لا بأس به من الناس يقبل على قراءة التاريخ والعودة إليه فى أوقات الأزمات والمحن والتحولات الكبرى، بحثًا عن خبرة يستأنس بها أو طوق نجاة يلوح من بعيد وسط الغبش المتنامى والضباب الكثيف، ومن ثم، وكما يقول صديقى المؤرخ الكبير الدكتور محمد عفيفى، فإن السؤال التاريخى يحضر دائمًا فى أوقات الأزمات لنعرف إلى أين وصلنا، معتبرا أن هذه «ظاهرة عالمية».
(2)
إذا صح هذا الفرض أو هذا التأطير، فإنه يمكن القول إن كتاب «أيام لها تاريخ» قد استهل مسارًا فى الكتابة التاريخية أو الكتابة عن التاريخ أو العود إلى التاريخ وإعادة صياغته أو الاجتهاد فى حكايته وروايته بأساليب متنوعة ومتعددة يجمع بينها أو يمثل القاسم المشترك الأكبر منها أنها موجهة فى المقام الأول للقارئ العام، القارئ غير المتخصص (دون أن يعنى ذلك عدم إفادة المتخصص منها، بالعكس فقد ثبت أن كثيرا منها قد مثل فائدة كبرى للمتخصص وغير المتخصص على السواء).
وثانى هذه القواسم المشتركة القدرة على التبسيط غير المخل، والقدرة على الصياغة الدقيقة الواضحة السهلة الميسورة. أو كما يصفها أكثر من صديق أجمع على محورية هذه الخصيصة فى كتاب «أيام لها تاريخ»، بقوله: لا أبالغ إن قلت إن هذا الكتاب من أكثر الكتب التى قرأتها إمتاعًا على الإطلاق وأكثرها بيانًا لمهارة مؤلفها كتابة وأسلوبًا.
وثالث هذه القواسم، هو مخاطبة أكبر قدر ممكن وأوسع شرائح ممكنة من الجمهور سواء من خلال صفحات الرأى والصحف السيارة والدوريات الأسبوعية والشهرية، قبل أن تجمع هذه المقالات أو الفصول أو الأبواب فى كتب مطبوعة ومنشورة.
(3)
كان كتاب «أيام لها تاريخ» - فيما أظن - نقطة فاصلة أو فارقة فى دفع هذا التيار إلى آفاق أوسع وأبعد مما كانت عليه. فلا يمكن الادعاء بأنه لم يكن هناك كتب تاريخية موجهة للقارئ العام، وغير المتخصص لم تظهر قبل «أيام لها تاريخ»، وإلا ماذا سنقول عن كتب محمد التابعى ومحمد عبد القادر حمزة وغيرهما، لكن «أيام لها تاريخ» كان مختلفا برؤيته وزاوية التناول والمعالجة واللغة والأسلوب، كان له مذاق خاص اكتسبه فى المقام الأول من ذائقة وثقافة وسمت مؤلفه (أحمد بهاء الدين) نفسه.
وكثير من الظواهر والخصائص والسمات الأخرى التى جعلت من الكتاب حجر زاوية فى هذا المسار أو فى هذا الاتجاه من الكتابة التاريخية أو الكتابة حول التاريخ أو التى تعود إلى فترات تاريخية سابقة فتعيد النظر فيها، وتعيد تأملها وقراءتها وربما تطرح تفسيرا جديدا لها قبل أن تعيد تقديمها وروايتها بصياغة جديدة ملائمة حتى وإن استعانت بنصوص قديمة أو بروايات مؤرخيها من العصور الوسطى أو الأقدم منها أو الأحدث.
(4)
سأشير إلى مثال واحد فقط للأثر الكبير والعميق جدًا لهذا الكتاب فى نفوس وعقول من قرأوه وتأثروا به غاية التأثر، ومنهم الكاتب الكبير والمؤرخ الراحل صلاح عيسى الذى انجذب إلى الفكر السياسى والاجتماعى أكثر، حتى غلبه عشقه للتاريخ، فصار حكاءً وراوية له، بطريقته الخاصة وأسلوبه الشيق والمثير، منطلقًا من محبته الجارفة لكتاب أحمد بهاء الدين «أيام لها تاريخ»، وذلك عندما انتابته رغبة جامحة فى السير على خطى هذا الكتاب، واستكماله بأجزاء أخرى، فلبس «عباءة المقريزى، وجعل يلتقط ومضات تاريخية من كتابه الضخم، ليحولها، بلغة عذبة إلى قضايا ذات أبعاد معاصرة»، كما يصفه مؤرخنا القدير الدكتور أحمد زكريا الشلق فى مقال بديع عنه نشره قبل فترة فى (الأهرام).
ومنهم أيضا المؤرخ الكبير عماد أبو غازى الذى أشار فى مقال له أن والده الراحل الفنان بدر الدين أبو غازى قد نصحه بقراءة كتب ثلاثة عقب هزيمة 67، كان على رأسها كتاب «أيام لها تاريخ»..
(وللحديث بقية)