... وما زال الحديث متصلًا حول المرحوم الدكتور ثروت عكاشة (1921-2012) الضابط الفنان المثقف الموسوعى، الذى لم يكن مجرد وزير للثقافة مرتين فى الحقبة الناصرية، وأول راسمٍ لسياساتها الثقافية، وصاحب خطة طموح شملت أرجاء مصر وربما العديد من أرجاء العالم العربى استلهامًا وتأثرًا، بل كان مثقفًا حقيقيّا مهيبًا بكل ما تعنيه الكلمة؛ نموذجًا للمثقف الذى تحدث عنه أسلافنا فى التراث العربى، وأشاد به مثقفو الحداثة وما بعدها؛ «المثقف» الذى يأخذ نفسه بالشدة والدأب والنشاط والانخراط فى ممارسة الثقافة ذاتها فينتج ما لم تستطع مؤسسات بأكملها إنتاجه تأليفا وتخطيطا وترجمة وتحقيقا للتراث، ورسما للسياسات.. إلخ.
كان من النخبة الطليعية المثقفة داخل القوات المسلحة، «ظاهرة ثقافية» عابرة للحدود والأزمان، فقد ولد عام 1921، وعاش شبابه الباكر فى الثلاثينيات من القرن الماضى، حيث كانت مصر تضج بكل التيارات الثقافية والنهضوية، وقضايا الاستقلال الوطنى.
كان هذا السياق هو الذى تشكل فيه وعى ثروت عكاشة، فى هذا الجو المشبع بحب المعرفة المتطلع للنهضة، أو كما كان يقول عن نفسه «إنه نشأ فوجد تيارات ثقافية عديدة فأخذ من هذه المذاهب ما توافق معه، بل وآمن أن الدولة لا بد أن تكون دولة راعية لهذه الفنون».
(2)
ولهذا يرى لويس عوض أن إنشاء وزارة للثقافة فى مصر عام 1958 لم يكن مظهرًا من مظاهر مركزية الدولة، بل كان لملء الفراغ فى رعاية الفنون والآداب الناشئ عن الانتقال من نظام الاقتصاد الحر إلى نظام تأميم وسائل الإنتاج والخدمات. وكذلك لملء الفراغ الناشئ عن الانتقال من نظام الأحزاب المتعددة لنظام الحزب الواحد، ولملء الفراغ الناشئ كذلك عن تصفية النفوذ الأجنبى والمصالح الأجنبية فى مصر.
كان ثروت عكاشة ممن ينتمون إلى تلك المدرسة التى تفهم الثقافة على أنها زراعة (هل نقول و«استزراع» أيضًا حال غياب النبتة بذاتها؟) للآداب الراقية والفنون الراقية والعادات الراقية، ومن كل ما يؤدى إلى ترقية الفكر والسلوك والوجدان.
وهو فى الجملة يقدم تصوراته الخاصة بالثقافة، والعمل الثقافى، والسياسات الثقافية، فى مذكراته المهمة التى يصفها لويس عوض حقا بأنها «أشمل سجل ثقافى ظهر حتى الآن لثورة 1952» عبر عشرين عاما.
وفى ظنى لم يكن لثروت عكاشة أن يقود هذا الحراك الثقافى المذهل (وجزء معتبر من هذا الحراك كان بمبادراتٍ فردية منه)، وهذا الازدهار الذى ما زلنا ننبهر بتحققه ونتنادى بتكراره، لولا مجموعة من العوامل كان أبرزها - من وجهة نظرى - تكوينه الثقافى الذاتى أولًا، وعمله الدءوب على تعميق هذا التكوين، واستيعابه لمعظم وأهم مجالات المعرفة الإنسانية قديما وحديثا.
(3)
من يراجع إنتاج ثروت عكاشة، وبغض النظر عن وصف «الموسوعية» الذى يلازمه كظله، سيجد أنه كان واعيا تمامًا بأنساق هذه الثقافة «الموسوعية» ولوازمها، وأولها وأهمها التمكن من اللغة الأم «العربية» بذات الدرجة التى يجيد بها لغات أجنبية أخرى يتحدث بها بطلاقة مذهلة، ومن ضرورة الجمع بين الثقافة المعاصرة والثقافات القديمة والتراث القومى، وأخيرًا المزج المعرفى الأصيل بين هذه العناصر كلها مجتمعة فى إهابٍ واحد.
وثانى هذه العوامل، ذلك العقل المخطط الصارم القادر على «رسم السياسات» وتحديد الاستراتيجيات ومواجهة المعوقات بأساليب وآليات أظنها متقدمة ومبتكرة وفريدة فى ظل السياق العام الذى شهد هذا الحراك.
وأظن أن لويس عوض قد انتبه إلى هذه الخصيصة فى تكوين عكاشة بوصفه «العقل المستنير، والنفس الحساسة، والطاقة الضخمة التى لولاها لما استجد أو نما كل هذا الغرس الثقافى الراقى فى عهد ثورة 1952».
وهناك عامل آخر مهم يتصل بالرؤية التى حكمت ثروت عكاشة فى اختيار معاونيه (ومستشاريه) فى قيادة المؤسسات الثقافية، والتنسيق بينها، وإدارة دفة العمل الثقافى فى ظرفٍ ملتبس جدّا، تماهت فيه الحدود بين السياسى والثقافى والاجتماعى؛ وشهدت تجاذبات وتوترات عدة بين السلطة وفصائل العمل الوطنى آنذاك، وبالأخص التيار اليسارى الذى انكوى بنار المرحلة وانصهر بها، ولكنه خرج منها فاعلا ومؤثرا ومنتجا بصورة لم تتكرر فى تاريخنا المعاصر حتى اللحظة.
(3)
ومن يرجع إلى مذكرات المرحوم ثروت عكاشة فى السياسة والثقافة (اعتبرها لويس عوض تمثل برنامج العمل الثقافى الذى كانت تحتاج إليه البلاد فى هذه المرحلة من تطورها)، سيجد فيه وصفا تفصيليا لمبادرات الدكتور عكاشة، واستجاباته لتحقيق هذه الإنجازات، ولتأصيل الفن الراقى على أرض مصر؛ مستعينا بصفوة العقول والخبرات المصرية العظيمة.
وإطلالة سريعة على نجوم العمل الثقافى - آنذاك - والأسماء التى تولت مناصب رسمية، وأنشأت وأدارت الهيئات والمؤسسات المختلفة (الكتاب، والمسرح، والسينما، والتخطيط الثقافى، والفن الشعبى، والفرق الاستعراضية، والإذاعة والتليفزيون.. إلخ). سنجد أسماء كبيرة فعلًا وقادرة على إنجاز غير مسبوق، واستطاعت عبر ما أتيح لها من مساحات للحركة من تنشيط الحياة الثقافية والفكرية ودعم الإبداع والمواهب ما جعل الفترة من النصف الثانى من الخمسينيات وعقد الستينيات بكامله حقبة فريدة فعلا ومختلفة ومتفردة.