فى حضرة كتاب مثير للجدل! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 16 نوفمبر 2025 7:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

فى حضرة كتاب مثير للجدل!

نشر فى : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:30 م

(1)
ما زالت الإحباطات المتوالية والانتكاسات التى أصابت مشروعات «التحديث» ومحاولات النهضة فى مصر والمنطقة العربية والإسلامية عمومًا منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، تلقى اهتمامًا من المشتغلين بدراسة تاريخ المنطقة ومن المعنيين بمستقبلها على حد سواء؛ فقضية «أزمة النهضة» همٌّ مستقبلى بقدر ما هى مبحث تاريخى خصب ومنفتح على عديد الدراسات والبحوث.


وعلى مدى نصف القرن الماضى، شهدت الدراسات التاريخية المتصلة بتلك الإشكالية ازدهارًا كبيرًا ومراجعات عديدة لإعادة فحص ودراسة وتحليل القرون الثلاثة السابقة على الحملة الفرنسية على مصر (السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر)، وهى القرون التى ساد اعتقاد عام ولفترة طويلة أنها كانت فترة خمود وظلام دامس فيما عرف أو شهِر بسردية التخلف والتدهور والتراجع، وأن اللحظة التى بدأ فيها نشاط جديد وحركة جديدة فى إحياء الفكر وتجديده ومحاولة النهوض على كل المستويات قد بدأت عقب رحيل الحملة الفرنسية، وكأثر أو نتيجة مباشرة لهذا الاحتكاك المدوى (1798-1801).


(2)
لكن، ومع دراسات بيتر جران وأندريه ريمون، ثم مع ظهور مدرسة مصرية أصيلة فى الكتابة التاريخية (رءوف عباس، ونيللى حنا، وناصر إبراهيم، وغيرهم)، تغيّرت هذه النظرة بشكل جذرى وظهر ما يمكن أن نطلق عليه مدرسة «المراجعات النقدية» أو الخروج على السردية التقليدية للمركزية الأوروبية، والتى بدأت تنتعش انتعاشًا كبيرًا فى مصر وغيرها من الأقطاب العربية والإسلامية. وبدأت تراكم إنتاج جديد وعصرى فى البحث والتنقيب عن مظاهر النشاط الفكرى والثقافى، وخاصة فى إطار الفكر الدينى بحثًا عن جوانب تجديدية أو إصلاحية سبقت ما بدأنا نتحدث عنه ونخصّه بمزيد اهتمام فى القرن التاسع عشر وما تلاه.


ومن هنا التفت باحثون، على سبيل المثال، إلى جهود الشيخ حسن العطار، والشيخ عبد الرحمن الجبرتى المؤرخ، ومن قبلهما الشيخ مرتضى الزبيدى الذى هاجر إلى مصر واستقر بها فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، وتوفى فيها ودفن بها أيضًا. ثم عمل باحثون آخرون على توسيع رقعة الدراسة جغرافيًا وزمنيًا، والبحث عن أسماء أخرى وأعلام تركوا كتابات ومؤلفات تستحق الفحص وإعادة الدراسة والتحليل. ومن ثم، وفى هذا الإطار، ظهرت أعمال خالد الرويهب وأحمد دلال، وبعض من يحثون الخطى فى الدائرة ذاتها بأعمال مهمة وجديرة بالقراءة والمناقشة، بغض النظر عن مساحات الاتفاق أو الاختلاف فى النتائج التى توصلوا إليها كليًا أو جزئيًا، دون أن ينفى ذلك أبدًا تقدير الجهد الكبير والأصيل فى الاحتشاد لجمع المادة من بطون المصادر والوثائق والسجلات والمخطوطات، فضلا عن إغناء هذا المجهود بالرجوع إلى عشرات المراجع الحديثة باللغات الأجنبية والاستفادة منها قراءة ونقدًا، اتفاقًا واختلافًا، تقاطعًا أو تجاوزًا.


(3)
فى بيت السنارى الأثرى بالسيدة زينب، مساء الثلاثاء الماضى، تشرفت بالمشاركة فى مناقشة واحد من هذه الكتب المهمة المثيرة للنقاش والجدل، والتى انطلقت من فكرة المراجعات والحفر العميق فى تراث القرون الثلاثة السابقة على الحملة الفرنسية، وأقصد كتاب «إسلام بلا أوروبا ـ الفكر الإصلاحى الإسلامى فى تراث القرن الثامن عشر» للدكتور أحمد دلال، رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبرفقة أستاذى وصديقى المؤرخ الكبير الدكتور عماد أبو غازى، وزير الثقافة الأسبق، ومترجم الكتاب الدكتور شكرى مجاهد، وبإدارة الدكتور أحمد محمود، أستاذ التاريخ الإسلامى بكلية دار العلوم.


كانت ندوة مهمة جدًا، دار خلالها نقاش ثقافى وفكرى رفيع المستوى حول رؤية الكتاب ومنطلقاته، ومنهجه التحليلى، وتصوراته العامة وفرضياته التى بنى عليها استكشافاته المعرفية. نقاش خصب وثرى، أفدت منه أيما إفادة، وبهرنى تفاعل الحضور، ومداخلات جيل شاب جديد مثقف وجرىء، وذى نظر نقدى حاد لكنه جاد ويستحق التقدير والاحترام.


ينطلق هذا الكتاب من فرضية خلاصتها أن القرن الثامن عشر كان عصرَ نشاط فكرى دءوب، لا عصر تدهور وانحسار، وأن العالم الإسلامى شهد إبانه، وإلى العقود الأولى من القرن التاسع عشر، واحدًا من أشد عصور تاريخه الفكرى نشاطًا.
ولم يقتصر النشاط العلمى الدءوب خلال هذا القرن على منطقة دون أخرى، أو على إقليم دون سواه، بل انتشر فى جُلّ بقاع الإسلام، وكان للفكرة «الإصلاحية» التى تمخّض عنها هذا النشاط - بمعزل عن التأثير الأوروبى - ممثلون فى مصر والشام واليمن والجزيرة العربية والهند وشمال إفريقيا وغربها، مخالفًا بذلك الكتابات القديمة التقليدية التى ذهبت إلى أن القرن الثامن عشر كان قرن تدهور سياسى واقتصادى وركود فكرى، وأن حركة الإحياء والإصلاح لم تنشأ إلا فى القرن التاسع عشر، وهى نشأة تفسّرها زيادة التأثيرات الأوروبية فى العالم الإسلامى وما أثارته من تحديات.


(4)
أشعر بامتنان كبير لهذا الجهد العلمى المقدر، وعلى إثارة هذا النقاش المثمر، والأهم هو هذه الروح الشابة المتوثبة التى بدأت تفرض حضورها بحسٍّ نقدى عالٍ، وتعليم حديث معمق بجهد فردى خالص، ورغبة حارقة فى تجاوز التخلف والتراجع الحضارى، والبحث عن نهضتنا وتقدمنا الذى طال انتظاره كثيرًا.