تركيا والعالم العربى.. من مشروع التغيير إلى إعادة التموضع - أحمد عبد ربه - بوابة الشروق
الأحد 16 نوفمبر 2025 4:25 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

تركيا والعالم العربى.. من مشروع التغيير إلى إعادة التموضع

نشر فى : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:20 م | آخر تحديث : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:20 م

بعد سنوات من النفوذ التركى فى المنطقة العربية خلال السنوات الأولى لثورات الربيع العربى، حيث أصبحت أنقرة فاعلًا أصيلًا فى الشأن العربى والإقليمى، وبعد ثورة أردوغان وغضبه إثر خروج الإسلاميين فى مصر من السلطة فى ٢٠١٣، اضطر الرئيس أردوغان فى النهاية وببرجماتية شديدة أن يعيد التموضع التركى فى الإقليم العربى، وأن يسعى إلى إعادة صياغة أسس لعلاقات جديدة مع الدول العربية النافذة فى المنطقة. فهنا يكون السؤال عن مساعى وأهداف أردوغان من هذه العودة الجديدة..


فى المرحلة الأولى، أى بين ٢٠١١ و٢٠١٣، تبنّت تركيا رؤية تقوم على أن صعود فاعلين جدد فى مصر وتونس، وإمكانية حدوث تغيير جذرى فى سوريا، يفتح الباب أمام دور تركى مركزى يعيد أنقرة إلى ما اعتبرته «عمقها» الطبيعى. إلا أنّ التحولات التى وقعت بعد ٢٠١٣، خصوصًا فى مصر، فرضت على أنقرة واقعًا مغايرًا. فالموقف التركى الحاد والغاضب من المعادلة السياسية الجديدة فى القاهرة وتأثيرها على نظيراتها فى بلدان عربية أخرى - لا سيما تونس وليبيا وسوريا - أدّى إلى قطيعة طويلة مع النظام المصرى، امتدت لسنوات ولا تزال تداعياتها قائمة إلى الآن رغم جهود التهدئة الأخيرة.


لم تقتصر التوترات على العلاقات المصرية - التركية، بل امتدت إلى السعودية والإمارات، سواء بسبب الخلاف حول ملفات إقليمية حساسة أو بسبب أزمة مقاطعة قطر. وكذلك تأثيرات قضية الصحفى الراحل جمال خاشقجى. أما فى سوريا، فقد تحولت الرهانات التركية المبكرة على سقوط النظام البعثى إلى عبء استراتيجى معقد، بعدما طال أمد الحرب وتعددت الأطراف المنخرطة فيها، بمن فى ذلك الفاعلون المرتبطون بالحدود الجنوبية لتركيا. وهكذا بدأ الدور التركى يفقد زخمه الأول، وتراجعت أنقرة إلى مواقع أكثر دفاعية خلال النصف الثانى من العقد الماضى.


خلال سنوات هذا التراجع النسبى، كانت مصر تتحرك بثبات فى ملف طاقة شرق المتوسط، حيث نجحت القاهرة فى بناء شبكة تحالفات متوسطية، وخصوصًا مع اليونان وقبرص وإسرائيل، ثم عبر منتدى غاز شرق المتوسط الذى تم تأسيسه بعيدًا عن تركيا، بل كانت هندسته من بناء القاهرة التى سعت إلى لفظ تركيا من المعادلة وصولًا إلى الاستعداد لمواجهة مطالبها البحرية. هذه التحركات ضيقت المساحة المتاحة للمناورة التركية فى المتوسط، وأدت عمليًا إلى حصار استراتيجى لأنقرة فى منطقة كانت تخطط للتمدد فيها قبل سنوات قليلة. لذلك لا يمكن فهم ملامح إعادة التموضع التركى اليوم دون إدراك حجم الانزعاج الذى سببته ترتيبات شرق المتوسط لأنقرة خلال السنوات الماضية.


• • •
غير أن المشهد الإقليمى تغيّر مجددًا خلال العامين الأخيرين، خصوصًا بعد هجمات السابع من أكتوبر، فقد أعادت الحرب على غزة رسم الكثير من المعادلات السياسية فى المنطقة، وأظهرت أن المنطقة لا تزال فى حاجة إلى قوى قادرة على التواصل مع جميع الأطراف ولو بدرجات متفاوتة، ولم تكن هذه القوى تركيا بكل تأكيد، بل كانت القاهرة! فرغم محاولات أردوغان استعادة جزء من خطابه الأخلاقى القديم تجاه القضية الفلسطينية، إلا أن الدور التركى خلال عامى الحرب كان خافتًا عمّا كان عليه الأمر قبل عقد من الزمان، حيث حاول الرئيس التركى تبوؤ موقع يسمح له بالتحرك فى القضية الفلسطينية، لكن دون أى نجاح يُذكر فى أن يكون جزءًا من محاور الحل أو التهدئة وصولًا إلى نهاية الحرب، التى كان يتم تدارس تفاصيلها ومراحلها بين القاهرة والدوحة وواشنطن وشرم الشيخ وتل أبيب، وليس فى أنقرة أو إسطنبول!


ولأن أردوغان مهما تظاهر بأنه قائد أيديولوجى متمسك بمشاريع قومية أو دينية فى العالم العربى والإسلامى ومدافع شرس عنها، فهو فى النهاية سياسى براجماتى يسعى لاغتنام الفرص. ومن هنا جاءت الخطوات التركية المتسارعة فى مسار المصالحة مع مصر خلال السنوات القليلة الماضية. فى سياق التراجع أو إعادة التموضع هذا، فقد شهدت الأيام الماضية لقاءً مهما بين الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية المصرى د. بدر عبد العاطى، حمل رسائل واضحة حول انتقال العلاقات من مرحلة التهدئة إلى مرحلة الترتيب السياسى الفعلى! فلغة الحديث هذه المرة كانت مختلفة، فكانت أقل حدة وأكثر واقعية، لتفتح الباب أمام ملفات ظلت عالقة أو مجمدة لسنوات بين القاهرة وأنقرة، سواء فى شرق المتوسط، أو فى ملف التجارة والتعاون الدولى، بل وفى الملف الليبى الذى كان لسنوات أحد أعقد نقاط الخلاف بين البلدين، وصولًا إلى الترتيب للاجتماع الثانى للمجلس الاستراتيجى المصرى - التركى برئاسة السيسى وأردوغان، الذى من المزمع عقده خلال النصف الأول من العام القادم.


• • •
أما فى سوريا، فقد تغيرت الأولويات التركية بصورة لا يمكن تجاهلها. فرغم أن وصول الشرع إلى السلطة لا يمكن إنكار دور أنقرة فيه، فإن النظام التركى أصبح أكثر محافظة بخصوص التدخل فى الشأن السورى، تاركًا المساحة لأطراف أخرى - لا سيما واشنطن والرياض - لترتيب المشهد الداخلى السورى، وسط ترقب تركى لملفات اللاجئين وتأمين الحدود الجنوبية، وضبط نشاط المجموعات المسلحة الكردية. بعبارة أخرى، تحول الدور التركى فى سوريا من تشكيل النظام السورى، إلى مجرد إدارة الأخطار والأعباء التى قد تأتى من هذا الملف وتؤثر بشكل مباشر على أنقرة!


وهكذا فإذا ما قمنا بالربط بين كل هذه التغيرات فى سياسة تركيا الخارجية تجاه المنطقة العربية، يمكن القول إن عودة تركيا اليوم تختلف جذريًا عن عودتها الأولى خلال الربيع العربى. فالعوامل الاقتصادية باتت تحتل موقعًا مركزيًا فى القرار التركى، خصوصًا بعد سنوات من التراجع فى قيمة الليرة والتضخم والضغوط الداخلية المتزايدة. كذلك فإن المزاج التركى العام أصبح أكثر ميلا إلى سياسة خارجية أقل أيديولوجية وأكثر اهتمامًا بالعائد الاقتصادى والاستقرار الأمنى.
يمكن القول إذن إن تركيا تعود نعم، لكن بملامح جديدة: حيث عودة لا تقوم على خطاب القيادة الإقليمية أو التحالفات الأيديولوجية، بل على البراجماتية والمصالح المشتركة، وعلى إدراك أن الزمن الذى حاولت فيه أنقرة إدارة التحولات الكبرى فى المنطقة قد ولى بالفعل! يبقى السؤال الآن: هل تستطيع العواصم العربية استثمار هذه العودة التركية لصالحها، أم أن موجات التوتر والتصادم التى حكمت العلاقة بين أنقرة وبين العواصم العربية ستتكرر؟ وهل تكون عودة أنقرة فرصة لإعادة رسم خريطة العلاقات البينية فى المنطقة كلها، وليس فقط الموقع التركى فيها؟!

 

أستاذ مشارك العلاقات الدولية والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر

أحمد عبد ربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر