«المسار الأزرق».. سحر الواقعية فى مواجهة الاستسلام لقانون العزلة من الحياة - خالد محمود - بوابة الشروق
الأحد 16 نوفمبر 2025 11:44 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

«المسار الأزرق».. سحر الواقعية فى مواجهة الاستسلام لقانون العزلة من الحياة

نشر فى : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:35 م | آخر تحديث : السبت 15 نوفمبر 2025 - 6:35 م

يأتى الفيلم المذهل «المسار الأزرق» للمخرج وكاتب السيناريو البرازيلى جابرييل ماسكارو، الذى عرض فى افتتاح مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، والحاصل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان برلين السينمائى.. ليشكل محطة جديدة ملهمة لسحر السينما الواقعية.


أحداث الفيلم فى البرازيل حول مستقبل قريب بائس؛ حيث يجبر النظام كبار السن على التقاعد بمجرد بلوغهم سن السابعة والسبعين، يتم منح أطفالهم الوصاية القانونية تلقائيًا، ويتم نقلهم إلى «مستعمرة» لا يعودون منها أبدًا، وذلك بحجة أن تتمكن الأجيال الشابة من التركيز على الإنتاج والنمو دون القلق بشأن حياة كبار السن، مع ضمان حياة سعيدة خالية من الهموم دون تهديد الوحدة. وأى شخص يقاوم يتم التقاطه بواسطة «عربة التجاعيد»، وهى نوع من مركبات النقل ذات القفص المفتوح التى تجعل من كبار السن الأسرى مشهدًا مهينًا.


يصور الفيلم كيف يمكن أن يؤدى رفض قبول المرء هذا المصير أو الاختفاء إلى أمور لا إنسانية تصل لدرجة أن يتم الإبلاغ عنه من قبل جاره أو الأقرباء ليتم نقله إلى المستعمرة.


وهنا يبحث «المسار الأزرق»، عن بدائل لمستقبل سيئ؛ حيث يتعين على الناس الذهاب إلى مستعمرة المسنين فى سن الخامسة والسبعين، بعد أن خفضت الحكومة الحد الأقصى للعمر ليكون إعلان عجز الأشخاص فى سن الخامسة والسبعين بدلا من سن الثمانين.


فى خضم ذلك تظهر شخصية «تيريزا» التى تجسدها باقتدار «دينيس واينبرج»، وهى امرأة نشطة تبلغ من العمر 77 عامًا، حيث تعمل فى مصنع تجهيز لحوم التماسيح، تعتقد تيريزا أنها ما زالت على بعد ثلاث سنوات من إعادة توطينها القسرى، لذا فهى تنتهك القانون دون علمها أو وعيها، والآن بعد أن بلغت تيريزا السن القانونية، تم إجبارها على التقاعد وقيل لها إنها لم يتبق لها سوى بضعة أيام قبل أن تحتاج إلى الانتقال إلى المستعمرة، وهى الآن تحت الوصاية الرسمية لابنتها، مما يعنى أنها لم تعد قادرة على إجراء حتى عملية شراء بسيطة دون إذن


الحكومة تريد منك الراحة».. هكذا يقول المشرف المسئول، بينما هى ترد: «لماذا أريد أن أستريح؟ أريد أن أعيش»، إنها لا تستطيع أن تصدق أمر النظام الجديد وترفضه مع نفسها.


قبل أيام قليلة من انتقالها إلى مكان آخر، تشرع تيريزا فى رحلة لتحقيق أمنية أخيرة من قائمة أمنياتها قبل أن تفقد حريتها، تريد ركوب طائرة، يؤدى رفض ابنتها جوانا (كلاريسا بينيرو)، شراء تذكرة طائرة إلى دفع المرأة العنيدة إلى رحلة بقارب نهرى والإبحار فى نهر الأمازون مع مهرب يدعى كادو (رودريجو سانتورو)، وإمكانية الصعود فى آلة طيران خفيفة الوزن، وخلال الرحلة، تلتقى تيريزا أيضًا بروبرتا (ميريام سوكاراس)، التى ظهرت فى الوقت المناسب، وهى «راهبة» ذات روح حرة، وتشعر تيريزا أنها تمكنت من شراء حريتها؛ حيث نشعر أنه لقاء بين أرواح متشابهة التفكير: تمكنت روبرتا من شراء طريقها للهروب من الشحن إلى المستعمرة - المال سيتحدث دائمًا - ويكشف سعادتها بالحرية عن المسار الذى يجب أن تسلكه تيريزا.


الفيلم يمثل انتصارًا للإرادة مسارات خطف الأنفاس وتملأ القلوب بالأمل، يحتضن المخرج ماسكارو نغمته الشعرية التى سار على نهجها وأنها يمكن أن تخلق صراعًا ذا مغزى، إنه يصنع مستقبلًا افتراضيًا يبدو معقولًا، وقد ابتكر إسقاطًا يمكن تخيله للبرازيل، فبدلا من المبالغة فى تصوير «الديستوبيا» على الشاشة، يركز انتباهه على تيريزا ومسار الطريق الخاص بها. لجعل تيريزا والجمهور يدركون متعة الاستقلال.


إن هذا الفيلم المؤثر هو أجمل صرخة تحذير وهو مدعوم بمناظر طبيعية خلابة للنهر، بالإضافة إلى موسيقى تصويرية رائعة، فهو الفيلم الأكثر إنسانية الذى أخرجه ماسكارو حتى الآن، وهذا لا يعنى أن فيلمى «أوجست ويندز» و«نيون بول» لم يكونا أيضًا مبنيين على صراع الفرد من أجل تحقيق ذاته خارج قيود المجتمع البرجوازى المحدود. ولكن فى فيلم «المسار الأزرق» يتعمق المخرج فى الشخصية، وخاصة الوهج الذى يأتى من فصل الذات عن الفائدة المفترضة والعيش فى اللحظة.


يتطرق السيناريو بذكاء منذ اللحظة الاولى.. «المستقبل للجميع» هكذا تعلن الحكومة فى مجتمع ولاية الأمازون البرازيلية، هو شعار الدعاية الذى يمكن قراءته، وسماعه فى كل مكان، ولكن كما هو الحال مع كل الشعارات، فإن الكذبة الأساسية مدمجة فى المقدمة: المستقبل للجميع بشرط أن يساهم «الجميع» بنشاط فى ازدهار الأمة.. ومع ذلك لم يسألها أحد عن الأحلام التى قد تكون لديها.


ومن ناحية أخرى، هناك نوع نادر من القواقع السحرية التى تترك وراءها أثرًا من المخاط الأزرق. إذا وضعت هذا المخاط فى عينيك، يمكنك رؤية مستقبلك.. لكن ماسكارو يقدم هذه الرؤى المزعومة فى المقام الأول باعتبارها تجارب جسدية. يتحول بياض العينين إلى اللون الأزرق ويصاب الأشخاص بحمى لتبدو لحظات البصيرة الوجودية مختلفة.


ورغم حساسية ماسكارو الدائمة للمتع التركيبية التى توفرها الطبيعة، فإنه ينجذب بشكل خاص إلى المسارات المتعرجة لنهر الأمازون وروافده، والتى تعمل أشكالها على ما يبدو كاستعارات جغرافية لرسالة الفيلم بأن الحياة لا تتعلق بأبسط الطرق وأكثرها استقامة للوصول من النقطة «أ» إلى النقطة «ى».


يقدم «المسار الأزرق» بديلا من نوع ما للوعود الفارغة التى قدمتها الرأسمالية والشيوعية على النمط السوفييتى بإصراره على أن الرفاهية ليست مرتبطة بمفاهيم المنفعة. وفى أفضل مشهد، تغتسل تيريزا وروبرتا باستخدام دلو من الماء اللامع، وتستجيب أجسادهما لانتعاشة تعززها أشعة الشمس والشعور بالتواصل بين امرأتين تختاران الطفو نحو المستقبل الذى يحلمان به.


الفيلم هو طريق للنساء المضطربات والعجائز الذين لا يريدن الاستسلام ليصبحن مثل تيريزا.


يقدم لنا المخرج أحداث قصته وهو يتعمق فى الشخصية، باللجوء إلى واقع إنسانى موازٍ؛ حيث تكون الانقسامات الاجتماعية وعمليات التنمية القائمة على مفردات السوق والتى بدأت فى ظل حكم الرئيس الشعبوى بولسونارو أكثر حدة، والذى ينتج عنه ديستوبيا شمولية يتم خلالها نقل كبار السن، الذين خانهم المخبرون والذين لا يريدون الاختفاء طوعا.

فى بعض الأحيان وفى سرد قصته، يصل المخرج ماسكارو بصورته المدهشة للأجواء المحيطة بأبطاله، إلى حدود الواقعية السحرية بجماليتها وحلمها، ثم يفضل بعد ذلك الالتزام بالحقيقة والواقع ليؤصل للصدمة، لذا فإن الفيلم هو فى نهاية المطاف مجرد سرد لرحلة متعددة الوجوه إلى الداخل لتحقيق الذات المتأخر ونذير اليأس.


وقد تم تصوير السيناريو بنعومة ليؤكد أنه إذا كان بإمكان المرء الهروب من مطاردى العوالم المستقبلية المظلمة بسهولة، فربما لا داعى للقلق كثيرًا.


تؤدى دينيس وينبرج دورها بإتقان، حيث تمنح الشخصية طبقات تتجاوز موقفها الصعب والجاد، فى البداية تسمح وينبرج بدقة للضعف بالظهور من خلال مراحل أدائها، وهى رائعة. بالإضافة إلى ضربك مباشرة فى المشاعر، تجسد تيريزا احتجاج ماسكارو المؤثر ضد التمييز على أساس السن. يُظهر أن كبار السن أكثر من قادرين على التمرد، خاصة عندما يتعلق الأمر بالنزوح القسرى للمجتمعات والاحتمالات المظلمة التى يمكن أن تندد بشكل معقول بمستقبل استبدادى.


يمكن اعتبار الفيلم الرابع لماسكارو ثنائيًا مع فيلمه السابق «الحب الإلهى»، والذى تخيل أيضًا مستقبلًا قريبًا تسيطر عليه دولة قمعية متنكرة فى هيئة أخ أكبر مهتم.

خالد محمود كاتب صحفي وناقد سينمائي
التعليقات