بعض الممارسات غابت وممارسات تستعد لتغيب - جميل مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 9:34 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

بعض الممارسات غابت وممارسات تستعد لتغيب

نشر فى : الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 - 6:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 - 6:35 م

 

تزحزحت عن معظم مواقعها الطبقة الوسطى المصرية خلال هذا القرن الذى مضى. لم تنتقل ولم تتحول ولكن تحركت قليلًا، تزحزحت. ما عهدناه عن إنسان الطبقة الوسطى، وبخاصة هذا الإنسان الذى وافق فاشترك عن قريب أو انضم واندمج فى مشروع نهضة، عهدناه لا يذهب إلى الجديد إلا وقد ترك خلفه شيئًا أو أشياء. يقال عنه، تهذبًا واحترامًا، إنه أخذ معه كل ما خف حمله وثقلت قيمته. أنا شخصيًا، وقد عشت فى هذه الطبقة فى أكثر من حى، أؤكد عن خبرة مبررة أن أحدًا من بين من عرفت انتقل من الحى الذى عشنا فيه إلا وكان حزينًا على فقد ما ترك وما تخلف وراءه من أفراد وأشياء.

تركت خلفى الكثير مما لا يمكن أن يكون مكروهًا فى أى وقت أو زمن. تركت خلفى قبلة على الخد من أم رأت بالمصادفة قمرًا على هيئة هلال يشق طريقه بنعومة ودلال نحو مكان فى بطن سماء كادت تظلم فأنارها. أظن أننى حاولت تقليد ما فعلته أمى معى. فاجأت أحد أولادى، وكان فى مثل عمرى، وأنا أتلقى قبلة شروق الهلال قبل ثلاثين عامًا. أغمضت العينين كما فعلت أمى واحتضنت النجل العزيز، ورحت أحاول طبع قبلة على جبينه وأنا أطلب منه أن ينظر فى السماء فالقمر هلال مستجد. أمام رد فعل غير متقبل ولا متفهم لم أكرر فعلتى، أظن أننى تركتها مع كثير من مثيلاتها من تجارب وأفعال كانت محببة فى الحى الذى تركت. بل وأعلم عن يقين أنه لم يأخذ فعلتى معه إلى أتلانتا فى جورجيا أو إلى بورتلاند فى أوريجون ولا إلى عواصم ولايات أمريكية أخرى شهدت تنشئة حفيدَىَّ الأمريكيين. كهذا تدفن العادات وكثير من التقاليد غير الضارة.

• • •

لن أنسى ليلة الوفاء بالندر. أولًا لأننى أكون قد شفيت من مرض عضال ألم بى ولم أتخلص منه إلا بعد أن ندرت أمى للسيدة زينب ندرًا وتحقق وعدها بشفاء ابنها، وثانيًا، لن أنساه، لأنه وبشفائى صار واجبًا مقدسًا تنفيذ الندر. أذكر البيت وقد امتلأت المسالك بين باب الخروج، أو ما كنا نسميه باب السكة، وبين المطبخ بأكوام أرغفة الخبز المجفف. أما المطبخ فقد ازدحم بـ«حلل» أو ما يشبهها لكن أكبر كثيرًا مما تعودنا على رؤيته فى الاستعمال اليومى. اختلف أيضًا المحتوى. ففى حال كان المرض عنيفًا وطويلًا كان المحتوى لحمًا مسلوقًا وفى حال الشفاء من مرض بسيط كان المحتوى مع الأرز فولًا نابتًا مسلوقًا. كله يجرى بالتعاون وعملا بالمثل القديم «قلل من الندر وأوفى». فى الحالتين كان البيت يعج بأبناء وبنات العمارة، كل جاهز بخبرة سابقة فى توزيع الندر على «مريدى» السيدة زينب، أو بخبرة حشو الأرغفة باللحم أو بالفول مع الأرز المسلوق. كهذا كانت تنتشر وتعم الفرحة بشفاء النجل العزيز.

• • •

كان واجبًا أن نقضى كل نهاية أسبوع مطولة فى البيت الكبير، بيت الحاجة جمال. نخرج من بيتنا وقبل أن نهبط إلى بطن الشارع تكون يد أمى قد قبضت بقوة على يدى ولن تتركها حرة إلا بعد صعودى قبلها إلى صالون الحريم فى الترام. خلال الشارع كنت أمشى مزهوًا بما كانت أمى تلقاه من احترام أصحاب الدكاكين وبوابى العمارات ومن عابرى الطريق من الجيران. كانت تعرفهم بالاسم، وإذا اقترب منا سألته أمى عن زوجته وأولاده وأخبارهم، «عاملين إيه فى المدرسة والعيان إتعالج ولّا لسه». لا أظن أننى اندهشت إذ كنت لا أفارق مجال رؤيتها إذا نزلت من بيتنا لأقف على الناصية أو ألعب مع اصحابى. كانت فى الأمسيات الهادئة تستمع إلى أحاديثنا وإذا غابت عنها معلومة لم تتردد فى سؤالى عنها. كان الحى كتابًا مفتوحًا أمامها وربما كان من حسن حظها أو من حظنا أن التليفزيون لم يكن وصل إلينا بعد.

• • •

لا أذكر أننى رأيت وجه أمى تكسو بعضه مساحيق أو ألوان أو أننى رأيتها ترتدى للخروج ملابس ملونة، كان الأسود أو الغامق علامة نيتها الخروج من البيت. أنجبتنى وكانت ربما فى أوائل الثلاثينيات بعد معاندة من الطبيعة حرمتها من أطفال تنجبهم ولا يعيشون أو لا تنجبهم أحياء. سمعت أنها عاشت معذبة ومعذبة لباقى أفراد العائلة. سمعت أيضًا أنها حرصت أن لا يرانى غرباء إلا وكنت فى ملابس الرضيعات و«الطفلات». وإذا اشتد ضغط الوالد تحت ضغط ضيوفه من زملاء العمل كانت تصر على ضرورة التأكد من وجود الخرزات الزرق فى مواقع متعددة من صدارة ملابسى. سمعت أيضا أن والدى لم يظهر الحماسة الضرورة لهذا النوع من السلوك إلا بعد أن أبلغهم طبيب الأطفال الأشهر فى ذلك الحين أن تظل حياتى فى مراحلها الأولى محل رقابة مشددة.

أشهد أمام منصات التاريخ العديدة أننى عشت حياة حافلة وجيدة وبصحة معقولة بالرغم من، أو بسبب، كل الاحتياطات وملابس الفتيات والخرزات الزرق وحلقات التبخير فى كل مناسبة وأى مناسبة، ورغم القلق الناتج عن مشاركة نساء فى صالون الحريم بالترام، كلهن حاسدات، فى كل رحلة نهاية أسبوع نزور فيها الحاجة جمال.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي