التدريس و«المدرس» والطريق المفقود! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 23 نوفمبر 2025 12:37 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

التدريس و«المدرس» والطريق المفقود!

نشر فى : السبت 22 نوفمبر 2025 - 6:10 م | آخر تحديث : السبت 22 نوفمبر 2025 - 6:14 م

(1)
قضية القضايا فى بحث أى أمة عن خلاصها وتحررها من الفقر والتخلف والمرض والأزمات والتحديات فى نظرى هى «التعليم»! ويوم يصير «التعليم» قضية أمن قومى على رأس أولويات الوطن؛ بالمعنى الحقيقى والأصيل لفقه الأولويات؛ بمعنى الانطلاق من «رؤية» عامة يصوغها حكماء الأمة وعقولها الفذة المشهود لهم بالكفاءة والجدارة والتميز، هذه الرؤية تترجم إلى سياسات تنفذ على الأرض تنطلق من فكرة جوهرية وأساسية وهى «بناء الإنسان»، وأى إجراء آخر يهتم بأى شىء إلا الإنسان محض جهد ضائع ووقت مبدد!


أظن أن هذه كانت مقدمة ضرورية ولازمة قبل الشروع فى أى حديث مشروع عن إصلاح العملية التعليمية، والبدء بأهم ركن فيها، بل أهم ركن من أركانها، وهو العنصر البشرى وتحديدا «المعلم». كلام كثير ومستفيض قيل ويقال (وسيقال!) عن الحاجة الملحة لإصلاح أحوال المعلمين، والبدء من الأساسات والجذور فى وضع تصور كلى وشامل لإعداد هذا المعلم وتأهيله وجعله مستوفيا لمقتضيات الكفاءة والجدارة اللازمة للقيام بمهامه المقدسة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، على الدرجة ذاتها من الأهمية والقيمة، هى استحقاق هذا المعلم للمكانة الاجتماعية والاقتصادية التى يستحقها، لا أقول تحسين أوضاعه فقط، إنما إعادة استحقاقه على سلم التراتب الاجتماعى، والقيمى، والمادى.. يجب أن يكون المعلم فى بلدنا فى أعلى مكانة وأحسن هيئة وكامل الإعداد، فدوره فى المجتمع أخطر الأدوار، إنه المسئول الأول (بعد البيت والأسرة… إلخ)، عن بناء الإنسان، عن منظومة القيم والتصورات التى ستبث فى وجدان وأرواح وأذهان الأطفال والنشء واليافعين والشباب!


وإذا لم يستقم العمل على إعداد هذا المعلم وتأهيله ووضعه فى مصاف الشرائح العالية اجتماعيا وماديا فلا معنى لأى محاولة أو كلام عن إصلاح التعليم أو ترميمه أو تطويره أو ما شئت من كلمات وألفاظ نتداولها على مدى يزيد على نصف القرن بلا فائدة!

(2)
ويذكرنى «فيسبوك» فى هذه الأيام بمنشورٍ «بوست» أدرتُه حول مهنة «التدريس»، وقيمة «المعلم» وتكوينه، والقدرات الخاصة التى يجب أن تتوفر فيه، وأن يمتلكها لأنها قوام مجتمع بأكمله!


ومما أثار دهشتى واستغرابى أن هذا المنشور كلما قرأته وجدته صادقًا ومعبرًا عن قناعتى منذ كنت تلميذًا أتعلم، مرورًا بمرحلة صرت فيها معلمًا أواجه طلابا وتلاميذ فى فصل دراسى عقب تخرجى، ووصولًا إلى احترافى الكتابة والانشغال بالتعليم والتعلّم ضمن «قضية التعليم» التى أراها «أم القضايا» و«رأس الموضوعات» وأولوية الأولويات فى أى تصور للمستقبل أو أى مشروع قومى نبحث عنه للخروج من الأنفاق المظلمة التى تحاصرنا من كل جانب.


قرابة ثلاثة أرباع القرن مثَّل «المًعلِّم» قلعة من القلاع الصامدة فى وجه طواحين التحولات والأزمات، وواحد من نقاط الأمل الباقية...


لا أظن أن أحدًا يختلف حول فكرة أن «المعلم» هو أساس وجود طبقة وسطى حقيقية وقوية، فهو حامل قيمها وناشرها بالأساس.. وقتما كان هذا المعلم موجودًا كانت الطبقة الوسطى تمارس أدوارها بكفاءة واقتدار.. تلك الطبقة التى وصفها نجيب محفوظ باقتدار وإيجاز مذهل بقوله «تقدم أبناءها هدية لوطنها وفى وخدمته».


وحينما تم الاستهانة بهذا المعلم والحط من شأنه، وتركه فريسة لتيارات الظلام والتخلف، تزلزلت أركان هذه الطبقة بل تضعضعت وتشوهت قيمها تمامًا فيما أظن.. ووصلنا إلى الحال التى نحن فيها الآن!
(3)
وأتذكر ما حكاه نجيب محفوظ فى "مذكراته" الصادرة عن دار الشروق التى حررها رجاء النقاش عن أستاذه للغة العربية الشيخ عجاج:


«كان الشيخ عجاج من أوائل الذين لفتوا انتباهى إلى جمال التراث العربى وروعته وثرائه، ففى دروس «البيان» كان يستشهد بأبيات شعرية ــ وأغلبها من شعر الغزل ــ وبحوادث ليست فى المقرر الدراسى، وكنت أسأله عن مصدرها فيدلنى على عيون التراث العربى، مثل: «البيان والتبيين» للجاحظ. وذهبت إلى مكتبات خان الخليلى وبحثت عن هذه الكتب طويلًا حتى اهتديت إليها، ونفعتنى قراءتها كثيرًا فيما بعد.


كانت العلاقة بينى وبين الشيخ عجاج ودية للغاية، وكان من المعجبين بأسلوبى فى الكتابة، كما أعتبر موضوعاتى فى الإنشاء نماذج تحتذى للتلاميذ.. كان عندى اهتمام خاص باللغة العربية فى سنوات دراستى الأولى، وانعكس ذلك فى موضوعات الإنشاء التى كنا نقوم بكتابتها، وفى إجادتى لقواعد النحو والصرف. وإلى وقت قريب كنت أحرص على وجود قواميس اللغة العربية وكتب النحو بجوارى أثناء الكتابة، حتى أستعين بها إذا اختلط علىَّ الأمر بين الكلمات الفصحى والعامية». («صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» للأستاذ رجاء النقاش).


لولا الشيخ عجاج مدرس اللغة العربية ما كان لنجيب محفوظ أن يكون أهم كاتب بالعربية فى القرنين الأخيرين.. تلك البداية الرائعة التى توفرت لنجيب محفوظ مع «التعليم» ومع «معلم» اللغة العربية، من خلال أستاذ فريد التكوين مؤهل للتدريس والتعامل مع الطلاب والتلاميذ كانت نقطة الانطلاق أمام محفوظ لاكتشاف التراث العربي، والالتفات إلى روائعه وكنوزه؛ شعرًا ونثرًا، ولم يكن تدريس اللغة وتعلمها منفصلاً عن تذوق نصوصها..


(وللحديث بقية)