لا أعرف ما الذى كنت أتوقعه عندما جلست لأتابع فيلم «صوت هند رجب» للمخرجة كوثر بن هنية، جئت إليه محملاً بصورة ذهنية صنعتها أفلامها السابقة: شغفها بالواقعى، قدرتها على كسر الحدود بين الممثل والحقيقة، وبين الذاكرة والمرئى. لكن ما وجدته هذه المرة كان مختلفًا، كان أكثر قربًا من منطقة داخلية لم أكن أريد الاقتراب منها وأكثر مباشرة فى لمس هشاشات الإنسان التى نحاول عادة إخفاءها تحت طبقات يومية من الصمت.
نعم فبطلتنا طفلة تمثل كل براءة العالم فى مواجهة عدو مغتصب ينتهك تلك البراءة.
الفيلم يستند إلى واقعة حقيقية مؤلمة جدًا هزّت العالم مع بدايات عام 2024: الطفلة الفلسطينية هند رجب، فى عمر خمس سنوات تقريبًا، كانت تحاول الفرار من غزة مع عائلتها داخل سيارة، عندما تعرضت لهجوم عسكرى.
فى مشهد محورى، تجلس هند محاصرة داخل السيارة، محاطة بجثث أفراد من عائلتها، بينما تجرى على الهاتف حديثا مرعبا مع موظفى الهلال الأحمر (الصليب الأحمر الفلسطينى) الذين يحاولون تهدئتها وتنسيق عملية إنقاذ.
تستمر عملية الاتصال لساعات، ويستخدم الفيلم التسجيل الصوتى الأصلى لمكالماتها الاستغاثية — «أنا خائفة جدا، تعالوا خذونى «تعالوا رجاءً» صوت صغير يختصر خوف مدينة كاملة، وقهر شعب كامل، دون صراخ أو شعارات، بل ببراءة طفل يبحث عن حضن آمن وسط الحرب، تسجيلات مكالماتها التى جرى تضمينها فى الفيلم ــ بصوتها الحقيقى ــ تقطع القلب ما يجعل اللحظة أكثر فداحة وإنسانية. استمرت محاولات الإنقاذ لساعات، فى النهاية، وبعد أن يجرى إرسال فريق من الإسعاف، يتم اكتشاف الجثث لاحقًا، هند والمتطوعون الذين حاولوا إنقاذها، فى حادث مأساوى.
هذه القصة البسيطة فى ظاهرها ــ طفلة وحيدة فى سيارة محاصَرة ــ تتحول فى يد كوثر بن هنية إلى قضية وجودية إنسانية، إلى صوت يعبر لا عن موت شخص واحد، بل عن مأساة شعب كامل. المعركة هنا بين إنسان يحاول أن يظل إنسانًا، وبين ظرف قاسٍ يتحداه.
«الصوت قبل الصورة»
من اللحظة الأولى، يعيدنا الفيلم إلى أهمية الصوت كعنصر أساسى فى السرد. ما نسمعه من مكالمات هند مع الهلال الأحمر ليس مجرد تسجيل يدعم الواقع، بل هو القلب النابض للفيلم: صوت طفلة صغيرة تطلب النجدة، وهى تعبر عن خوف كبير، والحوار بينها وبين المستجيبين يعكس بشاعة الحرب من الداخل.
بن هنية لا تقدم الفيلم كلقطة عادية، بل كصرخة فنية وإنسانية. استخدامها لتسجيلات فعلية ــ وربطها بإعادة تمثيل درامية داخل مركز اتصالات الهلال الأحمر ــ هو قرار فنى أخلاقى فى حينه. هى لا تروى القصة بغرض الإثارة، بل تسعى لإحياء جزء من الإنسانية التى فقدتها هند والعائلات المتضررة.
كوثر بن هنية تفهم هذا جيدًا، وتتعامل مع الصوت كأمانة ومسئولية، لا كأداة سينمائية.
«المزج الوثائقى ــ الروائى»
الفيلم ينتمى إلى جنس «الدكو ــ دراما»: توثيق من خلال صوت حقيقى، وتمثيل درامى للمستجيبين والمتطوعين. هذا المزج يمنح العمل مصداقية عميقة، لكنه أيضًا يجعلك تشعر أنك فى غرفة مركز العمليات، تستمع إلى ما لم تسمعه من قبل من هذه النافذة الإنسانية الحرجة جدًا.
صوت هند ليس صوت طفلة فحسب، بل يصبح رمزًا: صوت غزة، صوت الضحايا الصغار، وصوت الاستغاثة العالمى. عند سماع تلك المكالمات، شعرت بأن الفيلم لا يروى قصة هند وحدها، بل يحولها إلى بُعد جماعى، لصوت يعبر عن آلاف الأصوات التى لم تُسمع أو التى اختفت.
الكاميرا فى الفيلم لا تغوص كثيرًا فى العنف البصرى القاسى: بن هنية تختار أن تركز ليس على القصف، بل على مركز الاتصالات، على ردود أفعال المستجيبين، وعلى التعبيرات الصغيرة فى وجوههم.
هذا التوجه يجعل الفيلم أقل «تبريرًا للمأساة بالعنف المرئى» وأكثر «احتفاءً بالإنسان الذى يستمع ويحاول الرد».
عرض الفيلم عالميًا فى فينيسيا ثم وصوله إلى ختام مهرجان القاهرة السينمائى، وحصوله على تصفيق استمر طويلا من الجمهور فى كلا العرضين يدل على قوة القصة وتأثيرها العميق.
يتحدث عن الخصوصية الشديدة للصوت الداخلى، لكنه فى الوقت نفسه يجد صداه فى ثقافات متعددة.
ربما لأن ما يبحث عنه الفيلم ليس «حكاية محلية» بل سؤال إنساني:
كيف نتصالح مع صوتنا؟
وكيف نعرف إن كان صوتنا حقا لنا، أم أنه صدى لما يريد العالم أن نكون عليه؟
كما أن الجو السياسى للحدث ــ وهى قصة فلسطينية حساسة جدًا ــ يعطى العمل بعدًا لا يقتصر على الفن فقط، بل على التذكير بقضية إنسانية وجيوسياسية. المخرجة كوثر بن هنية قالت إن صوت هند «صرخة استغاثة سمعها العالم لكن لم يرد أحدًا».
خرجت من الفيلم وأنا أشعر بثقل غير مرئى.. ليس ثقل الحزن، بل ثقل المعرفة.. معرفة أن صوتا صغيرا مثل صوت هند كان يجب أن يغير شيئًا فى العالم، لكنه لم يفعل.
ومع ذلك، تتركنا كوثر
مع سؤال أخلاقى عميق:
ماذا نفعل نحن عندما نسمع صوتا يستغيث؟ وهل يمكن للفن أن يكون وسيلة إنقاذ ولو بعد فوات الأوان؟
كم من أصوات الضحايا لا نسمعها؟ لماذا نختزل الصراعات فى الأرقام دون أن نرى فى كل رقم إنسانًا صغيرًا مثل هند؟ وكيف يمكن للسينما أن تكون سجلًا لحالة إنسانية لا تُنسى؟
الفيلم لم ينجح فقط بوصفه عملاً سينمائيًا، بل كوثيقة وممارسة أخلاقية ورؤية فنية، وهو ما يجعله من أكثر الأعمال التى تركت بى أثرا شخصيا عميقا.
نعم «صوت هند رجب» ليس مجرد فيلم.. إنه شهادة، وصرخة، ومرآة.
إنه عمل يجعل السينما ــ ولو للحظة ــ تقوم بدورها الحقيقى.. أن توقظ فينا إنسانيتنا.
فهناك أفلام تترك أثرًا بصريًا يبهرك، وأخرى تترك فكرة تستقر فى الذهن ثم تتلاشى.
لكن نادرًا ما يمرّ على المتلقى فيلم يترك أثرًا داخليًا يرافقه طويلًا، ويعيد تشكيل علاقته بما يراه ويسمعه. هكذا كان فيلم «صوت هند رجب» للمخرجة كوثر بن هنية؛ فيلم لا يكتفى بعرض مأساة، بل يجعلنا نعيشها، نسمعها، ونتورّط فيها إنسانيًا.