فى تاريخ الأمم المتحدة قرارات تاريخية صدرت بشأن فلسطين والصراع العربى – الإسرائيلى. القراران رقم 181 ورقم 194 الصادران عن الجمعية العامة فى السنتين 1947 و1948، والقرار رقم 242 الصادر عن مجلس الأمن، تاريخية بلا ريب. القرار الأول نصّ على تقسيم فلسطين فاعتبرته الحركة الصهيونية المسوِّغ لإنشاء إسرائيل. بعد ذلك بعقود، أصبح يوم صدوره، 29 نوفمبر، اليوم الدولى للتضامن مع الشعب الفلسطينى. القرار رقم 194 نصّ على حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة إلى ديارهم أو تعويض مَن لم يُرِد منهم العودة.
القرار لم يُطبَّق، إذ رفضته إسرائيل، ولكن الشعب الفلسطينى يتمسك به، بل يتشبث بكل حق، فهو حجر أساس فى مطالبته بالعودة، وبيِّنة على إقرار المجتمع الدولى بعلاقته بأرضه. القرار رقم 242 ينص على عدم جواز ضمّ الأراضى بالقوة، وعلى انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها سنة 1967. لم تنسحب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها سنة 1967، ولكن الدول العربية تتمسك به لنصه على الانسحاب.
هل يصبح القرار 2803 الصادر يوم 17 نوفمبر الجارى تاريخيا أم يسقط طى النسيان؟ الولايات المتحدة مارست ضغوطا هائلة على الدول الأعضاء فى مجلس الأمن حتى تصوّت لاعتماد المشروع الذى قدّمته، وعلى غير أعضاء المجلس من المنطقة العربية ومن الدول الإسلامية الكبرى لتعلن تأييدها له. هدّدت الولايات المتحدة بأن البديل عن القرار هو إطلاق العنان لإسرائيل لاستئناف إبادة سكان غزة وتدمير القطاع.
هذا التهديد يبدو للكثيرين تهديدا أجوف. خطة الرئيس ترامب ومشروع القرار المقدّم لمجلس الأمن كانا لإنقاذ إسرائيل من العجز عن القضاء عسكريا على «حماس»، وكذلك لإنقاذ سمعتها التى هوت إلى الحضيض بسبب انتهاكها المستمر للقانون الحاكم للمجتمع الدولى، بما فى ذلك القانون الدولى الإنسانى. الولايات المتحدة مكّنت إسرائيل من مواصلة تدميرها لغزة فتدهورت سمعتها هى الأخرى. القرار لتدارك هذا التدهور أيضا. لو استأنفت إسرائيل قصف غزة لكانت التبعات الإنسانية مروعة على سكان القطاع، ولكن من شأن هذا الاستئناف أن تكون تكلفته السياسية هائلة عليها وعلى الولايات المتحدة نفسها.
• • •
أما وقد بيّنا ذلك، فمرور بعض الوقت ضرورى للرد على التساؤل بشأن ما إذا كان القرار تاريخيا أم لا. غير أن الشك قليل فى أن القرار غريب، وذلك بسبب إبهامه، وما سكت عنه، وفتحه الباب أمام تفسيرات متضاربة له. كان الأفضل عدم صدور هذا القرار. غير أنه وقد صدر، فإن الإبهام والمسكوت عنه فيه، والتفسيرات المتضاربة الممكنة له يمكن استخدامها لتدارك بعض عيوبه.
بدون تحليل مسهب لمضمون القرار قام به باقتدار آخرون، نكتفى بالإشارة إلى خطوطه العريضة الأساسية. القرار يُنشِئ مجلسا للسلام يطلق يديه فى شأن غزة وينوط به إعادة إعمارها. لا فى منطوق القرار ولا فى خطة ترامب الملحقة به ذكر لكيفية تشكيل المجلس ولا لطرائق عمله. فى خطة الرئيس ترامب أنه سيرأس المجلس، ولكن أن يُترك للإدارة الأمريكية أن تحدد أعضاءه سيؤدى إلى تشكيل يميل إلى جانب إسرائيل. ينبغى على الدول العربية وتلك المناصرة للعدالة وحق الشعب الفلسطينى فى تقرير المصير والقانون الدولى عموما أن تبادر باقتراح معايير لتشكيل المجلس. المبادرة ينبغى أن تشمل أيضا طرائق عمل المجلس واتخاذه لقراراته.
حق الفيتو الصريح أو الضمنى غير مقبول بين طرائق عمل المجلس. لهذا أهميته لأن المجلس هو الذى يقرر، بمقتضى الفقرة الثانية من القرار، إن كان إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية قد تحقق بإخلاص وإن كانت إعادة إعمار غزة قد تقدمت بما يسمح ببدء السير فى الطريق المؤدى إلى تقرير المصير وإنشاء الدولة الفلسطينية. خبراء القانون الدولى رأوا فى هذه الصياغة انتهاكا للقانون الدولى، فحق تقرير المصير قاعدة آمرة فيه. هو حق مطلق لا يجوز أن يكون مشروطا بإصلاح أو بإعادة إعمار أو بغيرهما. إن تغاضينا عن هذا الانتهاك للقانون الدولى، فإن تشكيل المجلس وطرائق عمله لا ينبغى أن يسمحا لإسرائيل ومعها الولايات المتحدة بتحديد إن كان الإصلاح قد تم أم لا، وإن كانت إعادة الإعمار قد تقدمت أم لا.
• • •
مسألة اتخاذ القرار تنطبق على اضطلاع قوة الاستقرار الدولية التى تنشئها الفقرة السابعة من القرار. بعد أن تفرض القوة سيطرتها على غزة وتؤمن الاستقرار فيها، تبدأ القوات الإسرائيلية فى الانسحاب وفقا لمعايير تتفق هى عليها مع القوة الدولية والدول الضامنة والولايات المتحدة.
القوات الإسرائيلية يمكن أن تقول إن القوة الدولية لم تفرض سيطرتها ولا حققت الاستقرار. هل تعارضها الولايات المتحدة؟! الفقرة السابعة تثير تساؤلات عديدة، مثال عليها أن المطلوب من قوة الاستقرار الدولية هو نزع سلاح الفاعلين من غير الدول، أى «حماس» وغيرها من فصائل المقاومة المسلحة، وتدمير الأنفاق والحيلولة دون إعادة حفرها.
فى لغة عمليات السلام، هذه ليست قوة لحفظ السلام بل لفرضه، أى إنها قوة محاربة، فأى دول ستكون مستعدة لمحاربة «حماس» نيابةً عن إسرائيل؟ أذربيجان المرشحة مثلا للاشتراك فى القوة أعلنت أنها لن ترسل إلا قوات لحفظ السلام بتفويض صريح من الأمم المتحدة. يصعب تصور أن تتخذ أى دول عربية مواقف مختلفة. مسألة تشكيل قوة الاستقرار، على ضوء المهام الموكلة إليها، يمكن أن تجهض تنفيذ القرار.
صياغة الفقرة السابعة فيها أيضا خروج على القانون الدولى لأنها، وإن لم تصرّح بذلك، تنشئ قوة لفرض السلام بدون الاستناد إلى المادة 42 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، أى بدون أن تكون القوة مسئولة أمام مجلس الأمن. فى هذه الفقرة تقويض للنظام القانونى الدولى الذى أنشأه ميثاق الأمم المتحدة. للحق، هذا التقويض والخروج على الميثاق فيما يخص الصراع العربى – الإسرائيلى بدأته الولايات المتحدة قبل الرئيس ترامب بعقود. خطة الرئيس ترامب وقراره يتماديان فيه ليس إلا، وإن كان تماديهما فجّا.
الدول العربية وأنصار العدالة والقانون الدولى ينبغى أن يبادروا باقتراح منهج لاتخاذ القرار لا يسمح لإسرائيل بفرض تقديراتها بشأن تحقق نزع السلاح. وقبل ذلك ينبغى أن يعالجوا الإبهام فى طبيعة قوة الاستقرار المزمع إنشاؤها، وأن يتصدوا بواقعية لمسألة نزع سلاح «حماس» وغيرها من الفصائل. استمرار احتلال مساحات من غزة، سواء ما يقرب من نصفها كما هى الحال الآن، أو محيطها الذى تنص الفقرة السابعة على أن تبقى القوات الإسرائيلية فيه بعد الانسحاب، ليس كفيلا بنزع سلاح الفصائل. يمكن البحث فى التلازم بين الانسحاب ونزع السلاح التدريجيين وتحديد أفق زمنى لهما، يُحسب بالشهور وليس بالسنوات.
• • •
من أوجه الغرابة فى القرار أنه ينشئ مجلسا للسلام ولكنه يقتصر على تناول الوضع فى غزة ولا يجىء على ذكر الضفة الغربية لنهر الأردن. السلام لن ينشأ فى غزة وحدها. الدول العربية المعنية وغيرها من دعاة الاستقرار والسلام لا بدّ أن تتمسك بأنه بدون التعامل مع الضفة والقطاع ككلّ واحد، فلن يكون مجلس السلام إلا اسما على غير مسمّى.
القرار يصرح لمجلس السلام وللأجهزة الإدارية والأمنية التى تنشأ بمقتضاه بالعمل حتى 31 ديسمبر 2027. هذا حدٌّ زمنى لم يكن موجودا فى خطة الرئيس ترامب، غير أن فترته أطول من فترات قوات الأمم المتحدة للسلام التى لا تتعدى السنة الواحدة وتتجدد سنويا. والفقرة العاشرة قبل الأخيرة من القرار تطلب من مجلس السلام أن يقدم تقريرا مكتوبا لمجلس الأمن كل ستة شهور، وهذا نص لم يكن موجودا فى الخطة الأصلية كذلك. ينبغى أن يصبح واضحا أن هذا التقرير لن يُعامل شكليا فقط، وإنما سيناقش وتتخذ على أساسه قرارات بصرف النظر عن فترة السنتين المحددة للمجلس مسبقا.
إن أمكن تطبيق القرار بما يمكّن الشعب الفلسطينى من ممارسة حقه فى تقرير المصير ويؤدى بمنطقة الشرق الأوسط إلى أن تعيش فى سلام واستقرار، فالقرار 2803 سيكون تاريخيا حقا. وإن مكّن تطبيقه إسرائيل من المضى فى مرادها وهو تصفية القضية الفلسطينية، فهو سيصبح تاريخيا أيضا، ولكن بشكل سلبى لأنه عمّق جذور الصراع وأدامه باستهتاره بقواعد التعامل فى النظام الدولى. الاحتمال الثالث، وهو لا يقلّ خطورة وقتامة عن الثانى، هو ألا يُطبق القرار ويُثبت خواؤه ويبقى النزاع فى غزة وفى الضفة الغربية على ما عليه بلا مقاربة جادة وعادلة لتسويته.
ربما كان الشىء الإيجابى فى هذه الحالة هو أن يعود النزاع إلى المجتمع الدولى ممثلا فى الأمم المتحدة لتتصدى له بمقاربة عاقلة تحترم مبادئها وقواعد القانون الدولى، وتعيد إليها مصداقية هى فى أشدّ الحاجة إليها.
أستاذ الأبحاث بالجامعة الأمريكية بالقاهرة