فجّر رئيس الجمهورية، الأسبوع الماضى، مفاجأة من العيار الثقيل حينما أصدر بيانًا يوضح فيه موقفه من الانتخابات الجارية حاليًا فى مصر لمجلس النواب! قلب البيان الموازين وهزّ المشهد السياسى بقوة، كما أربك البعض الذين راهنوا على أن الرئيس يوافق أو على الأقل لا يعارض الانتهاكات الانتخابية، ولكن بمجرد خروج البيان تجمّد البعض أو سكت، فيما غيّر آخرون مواقفهم بين عشية وضحاها فى مشهد مثير للأسى والضحك والشفقة فى الوقت نفسه!
عزّز رئيس الجمهورية موقفه فى اليوم التالى للبيان وأثناء تواجده فى أكاديمية الشرطة لمقابلة بعض المتقدمين للالتحاق بالأكاديمية، حينما تحدث مجددًا وبشكل مباشر إلى المواطنين، طالبًا منهم التفكير ١٠٠ مرة قبل التصويت، ومطالبًا الناخبين بعدم الثقة فى أى مرشح يمدهم بالأموال مقابل التصويت! سواء فى بيانه أو فى حديثه اللاحق فى أكاديمية الشرطة، فقد أعطى الرئيس أربع رسائل واضحة: الأولى أنه يعرف بالانتهاكات، والثانية أنه لا يوافق على هذه الانتهاكات ولا يدعمها حتى ولو صدرت من أحزاب أو أشخاص مؤيدين له أو هكذا هى مواقفهم المعلنة! أما الرسالة الثالثة فكانت للمواطنين ودعوتهم إلى تغليب إرادتهم الانتخابية على أى ضغوط مادية من أجل توجيه أصواتهم صوب مرشح أو قائمة بعينها! ثم كانت الرسالة الرابعة شديدة الوضوح، وهى أن الرئيس يحترم القضاة والقضاء ولا يتدخل فى عملهم، ولكنه فى الوقت نفسه يزيل أى لبس قد يكون لديهم بخصوص اتخاذ إجراءات حاسمة تجاه المخالفين، مطالبًا إياهم بعدم التردد فى هذا الصدد!
• • •
حينما قال الرئيس ما قال، فى الواقع لم يكن يتحدث فقط كرأس للسلطة التنفيذية، ولكنه كان يتحدث أيضًا كرأس ورمز للدولة، وما عزز من قدرته على فعل ذلك ببساطة وبشكل مباشر وبدون أى تردد، هو أن منهجه منذ البداية تمثّل فى ترك مساحة بينه وبين كل الأحزاب السياسية، وهو الأمر الذى لم يكن يروق لكثيرين إما لأسباب مصلحية ترى فى انضمام الرئيس لأحزابهم فرصة للحصول على الموارد والخدمات فضلًا - قطعًا - عن الدعم السياسى والحصانة! أو لسبب ثقافى، حيث لم يسبق لأى رئيس دولة مصرى (باستثناء الرئيسين محمد نجيب وعدلى منصور لظروف خاصة بوجودهما بشكل قصير أو مؤقت على رأس الدولة فى فترات انتقالية) أن كان بلا حزب أو تنظيم سياسى؛ فعبدالناصر والسادات ومبارك ومرسى، كلهم حافظوا على كونهم أعضاء ورؤساء لأحزاب أو كيانات سياسية بينما كانوا فى الوقت نفسه رؤساء للدولة المصرية!
وهكذا، ورغم النداءات والمطالبات التى صدرت من الكثير من السياسيين والإعلاميين والمثقفين للرئيس عامى ٢٠١٤ و٢٠١٥ للانضمام إلى حزب سياسى، إلا أنه رفض ذلك بشكل حازم، وتظهر نتيجة هذا الرفض الآن؛ فلم يكن من الممكن أن يقول الرئيس ما قاله بخصوص الانتخابات لو كان بالفعل رئيسًا لأحد الأحزاب السياسية المشاركة أو المتهمة بالمشاركة فى هذه الانتهاكات!
لكن من المهم أيضًا أن نقول إن موقف الرئيس الحازم من الانتهاكات الانتخابية لا يجب أن يتوقف عند رفضه لها، بل يجب أن يكون بداية حوار صريح وخالٍ من الخوف أو التبعات عن إدارة العملية الانتخابية كلها، التى - فى تقديرى - تعانى من مشكلات هيكلية وليس مجرد انتهاكات هنا أو هناك.
• • •
حينما نتحدث عن إدارة العملية الانتخابية بشكل عام، فنحن نتحدث عن القوانين التى تحكمها وعن الطريقة التى تُدار بها، بداية من إجراءات تسجيل المرشحين والموافقة عليهم أو رفضهم، وصولًا إلى عدّ الأصوات وإعلان النتيجة، مرورًا بالدعاية الانتخابية وضوابطها! وبهذا المعنى فإن مصطلح «نزاهة الانتخابات» يشمل مصطلح «عدم تزوير الانتخابات» وليس العكس!
وبالحديث عن إدارة العملية الانتخابية فى مصر، فكل هذه الإجراءات أو العمليات المذكورة فى الفقرة أعلاه تعانى! فالقوانين الانتخابية - وخصوصًا تلك المتعلقة بالقوائم العملاقة المغلقة المطلقة - لا تعطى فرصًا حقيقية للمستقلين أو المعارضين أو الأحزاب محدودة القدرات والموارد لأن تحصل على مقاعد مؤثرة فى البرلمان! فوفقًا لقانون شهير فى العلوم السياسية، فإن نظام القوائم الانتخابية عادة يرتبط بالعدّ النسبى، وهو ما يعنى أن تحصل كل قائمة على عدد مقاعد قريب نسبيًا من عدد الأصوات التى حصلت عليها، ومن ثم نكون أمام برلمان متعدد الأحزاب بين أغلبية وأقلية، وليس أن تفوز قائمة واحدة بكل المقاعد أو أن تخسر كل المقاعد! فالنظام النسبى هو الوحيد القادر على تمثيل إرادة الناخبين بشكل أكثر عدلًا! ولكن وبما أن مصر لديها تراثًا طويلًا من الحساسية بخصوص المقاعد الفردية، فالنظام الأنسب لمصر هو النظام الانتخابى المختلط بين المقاعد الفردية والقوائم النسبية!
كذلك وبنفس هذه الصراحة، علىّ أيضًا التنبيه إلى أن التغطية الإعلامية غير عادلة بخصوص تغطية فعاليات أحزاب بعينها وتجاهل أخرى، والأهم أن بعض المؤسسات المعنية بإدارة الانتخابات لا تكتفى بالإدارة، ولكنها تدخل أحيانًا فى الاختيار أو الرفض أو التنسيق بين المرشحين، وكلها أمور تؤثر على نزاهة العملية الانتخابية وتؤدى إلى تشكيل برلمان ضعيف لا يستطيع تأدية دوره فى التشريع، فضلًا عن الرقابة على السلطة التنفيذية!
أعلم جيدًا أن الحوار الوطنى العام الماضى وكذلك مع مطلع هذا العام تناول موضوع النظام الانتخابى بكثافة، ولكن لم تتغير القوانين الانتخابية رغم ذلك، وربما يكون موقف الرئيس الشفاف والواضح والداعم لإرادة الناخبين فرصة لإعادة الحديث عن الموضوع فى الحوارات الوطنية المقبلة نحو نظام انتخابى أكثر عدالة، وعملية انتخابية أكثر نزاهة!
• • •
وأخيرًا، لا داعى للحديث عن هؤلاء الذين كانوا يكيلون الاتهامات لمن تحدث عن سير العملية الانتخابية منتقدًا لها، ثم تحول موقفهم ١٨٠ درجة بعد موقف الرئيس الواضح؛ فهؤلاء عادة لا يختشون ولا يهتمون سوى بمصالحهم الضيقة، وهم دائمًا مع الفائز أو الأقوى دون أدنى معايير أخلاقية أو قومية. ورغم ذلك، فمن المهم لى أن أراهم - ربما للمرة الأولى خلال العقد الأخير - يرتجفون بسبب موقف الرئيس الواضح، ولعل ذلك يكون درسًا لهم، وإن كنت أعلم أنهم لا يتعظون!
أعلم أن الطريق نحو الإصلاح السياسى ليس سهلًا ولا ميسورًا، ولكن طالما توافرت الإرادة السياسية لمثل هذا الإصلاح، حتى لو كان إصلاحًا محافظًا أو بطيئًا، فإنه يكون بداية الطريق الذى أتمنى أن نسير عليه دائمًا ولا نتعرض فيه لانتكاسات! هدف الإصلاح ليس إرضاء الولايات المتحدة أو أوروبا - ولن يرضوا - ولكن الهدف هو أن نصلح المشهد السياسى الداخلى لأن مصر الوطن والأرض والشعب والحضارة والتاريخ تستحق مثل هذه الإصلاحات!
أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر