كشفت حرب غزة 2023 عن العلاقة الوثيقة والاستثنائية بين أمريكا وإسرائيل، ودعم الأولى غير المشروط لإسرائيل ماليًا وعسكريًا، مما نتج عنه تكاليف باهظة تضر بمصالح واشنطن، إذ سمحت هذه العلاقة لإسرائيل بتجاوز القوانين الدولية وارتكاب مجازر بحق الفلسطينيين. بناء على ذلك، يؤكد الكاتب أندرو بى. ميلر فى مقاله المنشور فى مجلة «فورين أفيرز»، على الضرورة الأخلاقية والاستراتيجية لتعديل هذه العلاقة نحو نموذج أكثر طبيعية ومساءلة لحماية مصالح كلا الطرفين.. نعرض من المقال ما يلى:
يؤكد كاتب المقال أندرو بى. ميلر أن علاقة أمريكا بإسرائيل ظلت قوية ووثيقة واستثنائية حتى خلال حرب غزة 2023، إذ قدمت إدارتان رئاسيتان أمريكيتان دعمًا دبلوماسيًا وعسكريًا غير مشروط إلى حد كبير لإسرائيل.
لكن هذا النوع من العلاقات الثنائية يأتى بتكاليف باهظة:
أولا: أدى الدعم الأمريكى غير المشروط إلى إطلاق يد القادة الإسرائيليين دون رقابة، ومنها الزيادة المستمرة فى إنشاء المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، إضافة إلى عنف المستوطنين فى الضفة الغربية، وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين فى غزة، إلى جانب المجاعة.
ثانيًا، مكن الدعم الأمريكى إسرائيل من القيام بأعمال عسكرية متهورة فى أجزاء من الشرق الأوسط وأدى ذلك إلى تفاقم المخاطر الوجودية التى تواجهها إسرائيل نفسها، منها تراجع الدعم الشعبى لإسرائيل فى أمريكا.
المخاطر الأخلاقية للدعم غير المشروط
أدى الدعم غير المشروط إلى خطر أخلاقى يضر بمصالح كلا البلدين. أولًا، ليس لدى إسرائيل سبب للاستجابة للمخاوف والمصالح الأمريكية لأن الرفض لن يكلفها شيئًا، بل على العكس تتشجع إسرائيل على تبنى مواقف قصوى غالبًا ما تكون غير متوافقة مع المصالح الأمريكية.
ثانيًا: من الصعب أن يكون القادة الإسرائيليون معصومين عن الخطأ فى أحكامهم، بما فى ذلك ما يتعلق بالتطورات فى منطقتهم. الدليل على صدق الجملة السابقة هو الفشل فى منع هجوم مفاجئ أدى إلى حرب 1973، والفشل فى توقع هجوم 7 أكتوبر 2023.
ثالثًا: أبرزت تداعيات هجوم حماس فى 7 أكتوبر العيوب الجوهرية لهذه العلاقة الاستثنائية، على سبيل المثال، استخدام حق النقض (الفيتو) ضد العديد من قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الداعية لوقف إطلاق النار، فيما اعتبرته عديد من الدول تغاضيًا عن التجاوزات الإسرائيلية.
رابعًا: فى حالة إسرائيل، تم تعليق تطبيق ما يسمى بـ«قوانين ليهى» (Leahy Laws)، التى تحظر المساعدة الأمريكية للوحدات العسكرية المتورطة بشكل موثوق فى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، على الرغم من أن القوانين لا تسمح بمثل هذه الاستثناءات.
خامسًا: شجعت اليد الحرة التى منحتها إدارة ترامب لإسرائيل على التوسع فى مغامراتها الإقليمية. فلم تثر العمليات الإسرائيلية فى لبنان وسوريا طوال فصلى الربيع والصيف سوى احتجاجات ضعيفة من البيت الأبيض.
سادسًا، لم يتولَّ ترامب زمام الأمور ويدفع باتجاه وقف آخر لإطلاق النار إلا فى أواخر سبتمبر، وبعد وفاة ما يقرب من 20 ألف فلسطينى إضافى منذ انهيار وقف إطلاق النار فى يناير 2025، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
سابعًا: كان الدافع وراء الضغط الأمريكى لتمرير اتفاق وقف إطلاق النار هو محاولة الاغتيال المتهورة التى قامت بها إسرائيل فى سبتمبر الماضى لقادة حماس فى قطر، وهى شريك للولايات المتحدة ومضيف لأكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى الشرق الأوسط. إن عدم قدرة واشنطن على حماية شريك من دولة تتلقى مليارات الدولارات من الدعم الأمريكى هدد بجعل المصداقية الأمريكية بلا قيمة.
ثامنًا: يؤكد ميلر على أن العزلة الدولية التى تعيشها إسرائيل ـــــ حاليًا ـــــ كنتيجة مباشرة لحرب غزة تشكل خطرًا واضحًا عليها. فقد صرح قادة هولندا وإسبانيا وسويسرا علنًا بأنهم سيعتقلون نتنياهو إذا وطئت قدمه أراضيهم، كما علقت المملكة المتحدة صادرات بعض الأسلحة إلى إسرائيل.
فى هذا الصدد، يستعين ميلر باستطلاع أجرته صحيفة نيويورك تايمز وجامعة سيينا فى سبتمبر، يوضح معارضة أكثر من نصف الأمريكيين ــــــ وسبعة من كل عشرة تحت سن الثلاثين ــــــ «تقديم دعم اقتصادى وعسكرى إضافى لإسرائيل». ويعتقد خمسَا الأمريكيين، وثلثا من هم دون سن الثلاثين، أن إسرائيل تقتل المدنيين الفلسطينيين عمدًا. كما أن الأمريكيين تحت سن 45 عامًا هم أكثر عرضة بأكثر من الضعف للتعاطف بشكل أساسى مع الفلسطينيين مما هو عليه الحال للتعاطف بشكل أساسى مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن هذه التغييرات فى الرأى العام لم تُترجم بعد إلى تغييرات فى السياسة، لا يمكن لإسرائيل أن تتوقع أن يستمر هذا الانفصال بين الواقع والتنفيذ إلى أجل غير مسمى.
التكاليف على الولايات المتحدة
يوضح ميلر أن الحفاظ على العلاقة الاستثنائية بين أمريكا وإسرائيل فرض تكاليف باهظة على الولايات المتحدة. فالأمر لا يقتصر على أن هذه السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل تقوض من أهداف واشنطن ومبادئها، إذ أدى هذا التقويض إلى تدهور مكانة واشنطن الدولية على مدى العامين الماضيين، وهو تطور استغله خصوم الولايات المتحدة بحماس، حيث استغلته الصين لتعزيز مكانتها كفاعل دولى مسئول، كما اغتنمت روسيا الفرصة ـــــ أيضا ـــــ لتحويل الانتباه عن جرائمها فى أوكرانيا.
يضيف ميلر أن الإذعان الأمريكى لرغبات الحكومة الإسرائيلية دون تقدير وتقييم للنتائج يُعرض أمن واستقرار إسرائيل للخطر، ويُخضع الفلسطينيين لمزيد من المعاناة، ويقوض المصالح العالمية للولايات المتحدة. لذلك، فإن حماية المصالح الإسرائيلية والفلسطينية والأمريكية يعتمد على تطبيع هذه العلاقة الاستثنائية.
• • •
يجب على واشنطن تطبيع سياساتها تجاه إسرائيل، وجعلها تتوافق مع القوانين والقواعد والتوقعات التى تحكم العلاقات الخارجية الأمريكية بأى دولة أخرى فى العالم. فى علاقة أكثر طبيعية، ستتمتع الولايات المتحدة بالمرونة اللازمة لمعايرة سياساتها لتحقيق توازن بين هدف حماية إسرائيل، وخطر تمكينها.
إن اتخاذ خطوات متعمدة نحو التطبيع سيمكن الولايات المتحدة من وضع شروط، مثل مطالبة إسرائيل بنقل مسئوليات الحكم فى المزيد من أراضى الضفة الغربية إلى الفلسطينيين ومقاضاة المستوطنين المتطرفين الذين يرتكبون أعمال عنف، كشرط مسبق للمضى قدمًا بعلاقة ثنائية طبيعية تظل «علاقة خاصة». هذا هو جوهر التطبيع الذى يمكن الحكومة الأمريكية من ممارسة نفوذها بفاعلية.
يذكر ميلر عدة خطوات تمكن واشنطن من تطبيع علاقاتها مع إسرائيل:
أولًا: التوصل إلى تفاهم مشترك بين واشنطن وإسرائيل بشأن الأهداف والغايات المشتركة والمتباينة، ومنها حدود الدعم بين الدولتين بما لا يضر بمصالحهما. بمعنى أوضح، يجب على الولايات المتحدة أن تحافظ على التزامها الثابت بأمن إسرائيل، ولكن دون أن يمكن هذا الالتزام إسرائيل من السيطرة الدائمة على الضفة الغربية أو غزة.
ثانيًا: يجب على الولايات المتحدة أن تطبق القوانين واللوائح والمعايير الأمريكية والدولية على إسرائيل بنفس الطريقة التى تطبقها على الدول الأخرى. يشمل ذلك قوانين «ليهى» المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وقانون المساعدة الخارجية، وقانون النزاعات المسلحة، الذى يتطلب من المتحاربين التمييز بين المقاتلين والمدنيين فى جميع العمليات العسكرية. على سبيل المثال، يجب أن تُحاسب أى وحدة فى الجيش الإسرائيلى تسىء معاملة الفلسطينيين بموجب النظام القانونى الإسرائيلى؛ وإلى أن يتم تطبيق هذا العقاب، يجب ألا تحصل الوحدة على مساعدة أمريكية.
ثالثًا: يجب أن تصبح المشروطية سمة من سمات العلاقة الأمريكية الإسرائيلية. فى ضوء ذلك، يقول ميلر إن حتى أقرب الحلفاء لا يتأثرون ـــــ دائمًا ـــــ بالنداءات الودية، لذا لابد من استخدام قاعدة المشروطية، أى استخدام المساعدات الأمريكية كورقة ضغط على أولئك الذين يتصرفون ضد المصالح الأمريكية، مما يزيد من احتمالية تغييرهم للمسار.
خلاصة القول، أدى الدعم الأمريكى غير المشروط لإسرائيل على مدى عقود إلى تقويض، بدلاً من تعزيز، السلام والاستقرار فى الشرق الأوسط. وكان الفلسطينيون هم الضحايا الأساسيون لهذه الإخفاقات، لكن يرى ميلر أن كلا الولايات المتحدة وإسرائيل نالا نصيبهما أيضًا من الخسائر. لذا يدعو الكاتب واشنطن إلى ضرورة تطبيع علاقتها مع إسرائيل عبر تطبيق القوانين، وفرض المشروطية، ووضع قيود واضحة على الدعم، المقصود هو حماية أمن إسرائيل دون الإضرار بمكانة واشنطن.
إعداد وتحرير: وفاء هانى عمر