النيجر.. وأفريقيا.. ورهاناتهم - سمير العيطة - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 6:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النيجر.. وأفريقيا.. ورهاناتهم

نشر فى : الأحد 20 أغسطس 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الأحد 20 أغسطس 2023 - 8:25 م
كانت رحى الحرب العالمية الثانية قد أنهكت القوى الاستعماريّة الكبرى، بريطانيا واليابان وفرنسا. وظهر من ثناياها قطبان أعظمان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى. لقد فرضا هيمنتهما على العالم، خاصة عبر امتلاكهما للسلاح النووى.
شهد الاستعمار اليابانى نهايته حيث كان بين المهزومين. بينما لم نشهد زوال الاستعمار المباشر لبريطانيا وفرنسا إلا بعد عقود، رغم إنشاء الأمم المتحدة عشية نهاية الحرب. بل ولم يتخليا عن صيغة الاستعمار المباشر إلا عبر تقاسم النفوذ والمصالح مع الولايات المتحدة (كما حدث عند الإطاحة بمصدّق فى إيران)، التى أفهمتهما كما الاتحاد السوفيتى «صراحة» بأن هيمنة القطبين الجديدين تقوم بطرق أخرى (كما عندما هددهما الاتحاد السوفيتى بقصفٍ نووى لوضع حدّ للعدوان الثلاثى على مصر فى 1956 ووقفت أمريكا «على الحياد»). وهكذا بدأت مرحلة نهاية الاستعمار، حيث حصلت بلدان كثيرة فى آسيا وأفريقيا على استقلالها فى الخمسينيات والستينيات. وتحول الاستعمار المباشر إلى نوع من فرض النفوذ عبر «القوة الناعمة» واستخدامها الشبكات الاقتصادية والتلاعب بـ«النخب المحلية» والمساعدات «الإنسانية».
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتى عام 1990، أصبح القطب الأمريكى وهيمنته «وحيدين». لكن سرعان ما صعدت الصين كقوّة منافسة، وبرز الاتحاد الأوروبى ودول متوسطة القوة كلاعبين على المسرح الدولى، من الهند وباكستان إلى البرازيل وتركيا ودول الخليج، كى يلوح مع الألفية الجديدة عالم متعدد الأقطاب، أقل استقرارا وأصعب توازنا بما كان لدى وجود قطبين، خاصّة مع محاولة روسيا استعادة دورها على خلفيّة إرث الاتحاد السوفيتى وجهود أقطاب أخرى بغية بسط نفوذ إقليمى.
• • •
فى مثل هذا المناخ، تشهد الدول التى لم تستطع فى الفترات السابقة تحقيق تنمية فعليّة ومنعة لمؤسسات دولها، بما فى ذلك ترسيخ قبول هذه المؤسسات شعبيا اضطرابات حادة. هذه هى حال بلدن عربية أخذتها موجة «الربيع العربى» إلى الدمار والتفكك، وهذا ما تبدو ذاهبة إليه كثير من دول أفريقيا، حيث المجال المفتوح لطموحات الأقطاب المتعددة.
صعوبات هذه الدول الأفريقية تشابه الدول العربية، وربما بصورة أكثر حدّة. فمجتمعاتها شديدة التنوع ما زالت تسعى لتماسك وحدتها على مبدأ المواطنة. وتوالت عليها الانقلابات والاضطرابات خلال عقود مع نخر لمؤسسة الدولة من قبل السلطات القائمة، مهما كان لبوسها، ديكتاتوريّا أم «ديموقراطيا».
وضمن هذا السياق، تأتى تطورات النيجر (20 مليون نسمة) الأخيرة، بعد تلك فى مالى (18 مليونا) وبوركينا فاسو (18 مليونا). فهذه الدول الثلاث، ذات الأغلبية المسلمة والمطلة على الصحراء الأفريقية انتظمت بعد استقلالها كدول مؤسسة «للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» التى نشأت كبديل لـ«فيدرالية المستعمرات الأفريقية» القديمة، على أسس حرية التبادل التجارى بينها والتى تشكّل نيجيريا اليوم ضمنها الثقل الأكبر سكانيا (182 مليونا) واقتصاديا. وهذه الدول الثلاث تتعامل جميعها، على خلاف نيجيريا، بما يُدعى «فرنك غرب أفريقيا» (والذى كان يسمى «فرنك المستعمرات الفرنسية فى أفريقيا») المرتبط اليوم باليورو، والتى تضمن فرنسا ثبات قيمته، ما يفرِض عليها وضع نصف احتياطاتها بالقطع الأجنبى فى خزينة المالية الفرنسيّة (ما يذكر بتاريخ الليرة السورية ــ اللبنانية فى منتصف القرن الماضى). ولطالما شكلت هذه التبعية النقدية قضية خلافية بينها وبين فرنسا، لما تأخذ إليه من تشجيع لاستيراد الرفاهيات من فرنسا وأوروبا (للطبقات العليا والوسطى) و«تبخيس» لقيمة الصادرات التى تشكل المواد الأولية أغلبيتها. هذا مع الفشل المستمر لمحاولات «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» فى خلق عملتها الموحّدة.
• • •
لكن، بمعزل عن الحساسية تجاه الإرث الاستعمارى الفرنسى، ما الذى يجعل النيجر و«رفيقاتها»، وهى بين الأكثر فقرا فى العالم والتى تعانى من تقدم التصحر وموجات الجراد، مجالا للتنافس بين فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة، من ناحية، والصين وروسيا وأيضا تركيا وغيرها، من ناحية أخرى؟ ولماذا أثار الانقلاب الأخير فى النيجر غضبا فرنسيا لافتا عبّر عنه الدفع إلى تدخل عسكرى لدول الجوار يوحى بعودة إلى السياسات الاستعمارية القديمة؟ أهى مواردها الطبيعية؟
بالتأكيد، تحتوى النيجر على أحد أكبر احتياطات اليورانيوم العالمية. ولكن فرنسا لديها مصادر متنوعة لليورانيوم ولا يمكن للنيجر الاستفادة منه سوى عبر بيعه فى الأسواق. وهناك أيضا النفط والذهب والفحم. وبالتأكيد أيضا، لا يشكّل حجم المعونات التى تتلقّاها النيجر من أوروبا والولايات المتحدة، وهى بضعة عشرات ملايين الدولارات احتاجت إليها مع أزمات ديونها المتواترة، سوى جزء مما يُمكن أن تحصل عليه من استثمار مواردها.
ولعل هناك أمور أخرى تخص بالتحديد الصحراء؟ إن هذه الصحراء ممرّ لتدفق المهاجرين والممنوعات (بما فيها المخدرات المنتَجة فى المغرب) نحو ليبيا وتونس والسودان ومصر (حسب تقارير للأمم المتحدة). هذا دون أن ننسى التنقيب «العشوائى» عن الذهب خاصّة فى مثلث الحدود الليبيّة ــ الجزائريّة ــ النيجريّة ــ التشادية. وهذه التجارات غير الشرعيّة هى السبيل الأساسى التى تتموّل منه التنظيمات الإرهابية المتعددة («الدولة الإسلامية فى الصحراء الكبرى»، «جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد» أو «بوكو حرام»، و«الدولة الإسلامية فى غرب أفريقيا»، و«جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، إلخ) التى تنشط فى منطقة الصحراء، والتى لطالما شكلت هاجسا للدول المجاورة لها، من الجزائر إلى نيجيريا. واللافت أن سنين من التعاون الأمنى بين الدول المعنية وفرنسا وغيرها وانتشار القواعد العسكرية الخارجية لم تفضِ إلى كبح نشاطات الجماعات الإرهابية كما التجارات غير الشرعية. واللافت أيضا أن قاعدة عسكرية فرنسية تقع بالتحديد على الطريق الصحراوى فى النيجر بالقرب من الحدود الليبية، وأن بعض الجماعات الإرهابية المتطرفة لها نفوذ حقيقى فى جنوب ليبيا، حيث يقع مخزون النفط والمياه العذبة (مع ضربات للمسيرات الأمريكية عليها من حين إلى آخر). النيجر ومالى وبوركينا فاسو التى تمرّدت فى السنوات الأخيرة هى بالتحديد جوهر هذه «الفوضى» الصحراوية.
• • •
بعد الانقلاب العسكرى الأخير، الذى يُقال أنّه بتحريض روسى، تمّ فرض عقوبات على النيجر وأوقفت المساعدات «الغربية» ويتم الدفع نحو تدخل عسكرى من قبل دول فى «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» لإعادة الحكم الديمقراطى، فى ظل إعلان مالى وبوركينا فاسو من أن ذلك سيشكّل عدوانا عليها، وتحذيرات من السلطة الجزائريّة وبرلمان نيجيريا بأنّ ذلك سيأخذ المنطقة برمّتها إلى مزيد من عدم الاستقرار.
ومن الواضح أن الصراع الدامى فى السودان وغيرها فى شرق أفريقيا والصراع الجديد الذى يتطوّر فى غربها لهما دلالات مقروءة مفادها أنّ أفريقيا باتت مجالا لتنافس العالم المتعدّد الأقطاب... وما يعنى مزيدا من الخراب بدل التنمية. وتبقى المسئولية الأساسية هى مسئولية نخب البلدان الأفريقية وسلطاتها الحاكمة فى غياب منعةٍ تخدم وتحمى مواطنيها ومواطناتها.
سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات