بين الحين والآخر يكتب بعض القراء تعليقات حول ما أكتبه بحماس وإيجابية مساندة عن الهوية العروبية المشتركة فيما بين أقطار الوطن العربى أو عندما أشير إلى الالتزامات المترتبة عن الفكر القومى. هؤلاء القراء يشككون فى الأسس التى تقوم عليها مفاهيم الأمة العربية الواحدة والوطن العربى الواحد وفى هدف قيام نوع من الوحدة العربية التدرجية المنبثقة عن إرادة الشعوب المعبر عنها ديموقراطيا. وهم يعتقدون بأن ذلك الفكر الذى اجتاح بزخم جماهيرى هائل كل المجتمعات العربية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى قد أصبح من الماضى، وأن الفكر العولمى المناقض لضرورة الدولة القومية لكل أمة فى هذا العالم سيسود إن آجلا أو عاجلا.
وهم بالطبع يرددون، بعلم أو بغير علم، مقولات نهايات الأيديولوجيا والتاريخ التى طرحها العديد من الكتاب السياسيين الأمريكيين، والتى تخلوا عنها بعد حين.
ملاحظات القراء تلك تحتاج أن نناقشها بهدوء وبموضوعية تامة، ذلك أن الكثير من الشعارات التى طرحها شباب وشابات الأمة العربية إبان حراكاتهم الجماهيرية المليونية عبر السنوات العشر الماضية ستبقى صرخات فى واد، وستجهز عليها قوى الاستبداد والرجعية والظلام فى الداخل وقوى الاستعمار الاستغلالى فى الخارج، إن لم يكن النضال الوطنى من أجلها مرتبطا بنضال عربى مشترك مساند ومعزز وحامى.
دعنا اليوم نأخذ بعض الجوانب التاريخية التى تستوجب، وتسهل فى نفس الوقت، طرح شعار الهوية الثقافية والتمسك بقيام أمة الدولة القومية.
أولا، أن الأمة العربية، كغيرها من الأمم الأخرى، تكونت عبر تاريخ طويل يمتد إلى عشرات القرون من مجموعات من القبائل والشعوب. ومع مرور الوقت، واشتراكها فى السراء والضراء، تكون لديها وعى بذاتها وخصوصيتها اللغوية والمسلكية وشتى الصور التعبيرية من مثل الشعر والأساطير والبناء. وقد ساهمت الحروب فيما بينها والهجرات فى اختلاط تلك القبائل والشعوب وتفاعلها الدينى والثقافى والعرقى وذوبان حضارات سابقة فى حضارات جديدة.
وبالطبع لعبت الجغرافيا الواحدة والمتقاربة والمنفتحة على بعضها بفعل الصحارى والأنهر المشتركة والبحار المتداخلة، لعبت دورا كبيرا فى كل ما حدث من توحيد مادى ومعنوى.
ثانيا، لكن ما كان لنضج وجود الأمة ووعيها الشديد بذاتها وهويتها أن يتجذر فى التاريخ، وعبر القرون، لولا التغيرات الكبرى التى أحدثها مجىء الإسلام كدين وكحضارة فى كل جزء منها أولا ثم ثانيا فى أرض العرب كلها، القديمة والجديدة الزاحفة باسم الدين الجديد، وأصبح صعبا عند ذاك التفريق بين أنا الإسلام وأنا العرب.
وبالطبع كان للغة القرآن العربية دور كبير فى ترسيخ وحدة اللغة، أداة توحيد الفكر والثقافة اللازمين لبناء وجود كل أمة.
هناك من المؤرخين من يعتقد بأن كيان الأمة شبه القانونى والدستورى بدأ مع صحيفة النبى فى المدينة، والتى كانت عبارة عن تأكيد بأن المهاجرين والأنصار واليهود العرب يكونون أمة واحدة متضامنة ضد أعدائها. كان ذلك الكيان العربى الرسمى هو منطلق التوسع فى الجزيرة العربية ثم فى ما وراءها، متمثلا فى دولة الأمويين الشديدة التمسك بكل ما هو عربى أولا، ثم فى دولة العباسيين الشديدة الشبه بإمبراطورية جامعة لشعوب عديدة، ثم فى أشكال من الدول المستقلة عن مركز الخلافة الإسلامية بهويات محلية إلى حد ما ولكن دون أن يستطيع أحد منها الوصول إلى الدولة القومية، دولة الأمة. لكن بالرغم من كل تلك الإنقسامات ظلت الهوية العربية الإسلامية الجامعة لكل الأجزاء هى التى يشعر بها الفرد وتشعر بها الجماعة.
ذاك التاريخ الموحد لم يقف عند تلك الحدود الزمنية وظل متمظهرا عبر القرون الحديثة كما سنبينه فى مقال قادم. من هنا أهميته الكبرى فى تكوين الهوية الواحدة وفى طرح شعار الأمة العربية الواحدة.
مفكر عربى من البحرين