لا أعرف من أين جاء البعض بالادّعاء بأن تبنّى المجتمعات للأيديولوجيات يمنعها من الإقدام على ممارسة عمليات الإصلاح، وعلى الأخص السياسى منها، بل ومع مرور الوقت تصبح الأيديولوجيات عقائد مقدّسة متزمّتة منغلقة على نفسها.
وكمسايرة أو تقليد لما يقوله الغرب الاستعمارى الصهيونى يركّزون هجومهم على أحد أهم الأيديولوجيات فى الوطن العربى: الأيديولوجية القومية العروبية بشعاراتها الثلاثة الشهيرة، شعارات الوحدة العربية والحرية والاشتراكية (أو العدالة الاجتماعية).
بعضهم يقترح الانتقال إلى الفلسفة والممارسة البراجماتية الأمريكية الشهيرة أو إلى البراجماتية الصينية الأخيرة، وبعضهم الآخر يقترح التبنى الكامل لليبرالية الأوروبية المعروفة سابقا بليبرالية الأنوار ومؤخرا بالنيوليبرالية العولمية التى طرحتها منذ أربعة عقود أمريكا وإنجلترا، إلى أن أصبحت مهيمنة على أغلبية العالم. لكن ما يثير الانتباه أكثر هو تواجد الذين ينادون بمراجعة تلك الأيديولوجية مراجعة جذرية شاملة دون أن يسمّوا بالاسم والمحتوى تفاصيل تلك المراجعة التى يقترحونها. هؤلاء يتجاهلون، عن قصد أو غير قصد، العديد من الجوانب التطويرية التى حدثت فى هذا الميدان.
فأولاً، يتجاهل هؤلاء قيام المئات من المفكرين والمثقفين والمناضلين السياسيين العرب، بعد عشرات من اللّقاءات المكثفة التى دعا لعقدها مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت، قيامهم بتوسعة وتعديل الشعارات الثلاثة الشهيرة، شعارات الوحدة العربية والحرية والاشتراكية، لتصبح فى شكل مشروع نهضوى متكامل لتلك الأيديولوجية التاريخية، رافعا الشعارات السّت التالية: الوحدة العربية، الاستقلال الوطنى والقومى، الديموقراطية، التنمية الإنسانية الشاملة المستمرة، العدالة الاجتماعية، التجديد الحضارى. فإضافة الديموقراطية والتنمية الإنسانية المستمرة والتجديد الحضارى قد سدّ بعض الفراغات الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية التى كانت موجودة فى الطروحات الماضية لهذه الأيديولوجية.
وثانيا، ثبت فى الماضى أن المسيرة الديموقراطية، القائمة على التعددية الحزبية، إن لم تكن قائمة على التعددية الأيديولوجية المتنافسة بشرف وصدق، ستتراجع شيئاً فشيئاً لتصبح مؤسسات تسلّط وفساد لا تحكمها القيم الأخلاقية والأهداف السامية. وبالتالى فإن نهاية الأيديولوجية ستوصل المجتمعات إلى نهاية المسيرة الديموقراطية أو تشويهها إلى شتى صور الانحطاط.
وثالثاً، إن موقفهم السلبى من التواجد التفاعلى للأيديولوجية القومية العروبية فى الوطن العربى لا يمكن إلا أن يعنى أن موقفهم ذاك سيمتد ليشمل كل الأيديولوجيات الأخرى من مثل الأيديولوجية السياسية الإسلامية للأحزاب الإسلاموية أو الأيديولوجية اليسارية الماركسية بكل تحليلاتها العلمية لتركيبة وعلاقات المجتمعات أو حتى الأيديولوجيات الليبرالية العصرية بنقاط قوتها وضعفها. فماذا يبقى بعد ذلك من حياة سياسية فى المجتمعات العربية لتنظيم أمور الدولة والمجتمعات المدنية وعلاقات المواطنين؟
وبالتالى، فرابعا يجب اقتصار الحديث على تطوير الأيديولوجيات بصورة دورية من أجل أن تأخذ بعين الاعتبار شتى أنواع التغيرات التى تأتى بها رياح التغيير المستقبلية، وعلى الأخص التغيرات العميقة المعقدة التكنولوجية الهائلة التى ستكون لها تأثيراتها الهائلة على الحياة البشرية فى المستقبل القريب. وهذا هو ما نفتقده فى خطاب الذين يعتقدون بأن منتهى الحداثة والعصرنة والتقدم تكمن فى إماتة الأيديولوجيات واستبدالها بفوضى كل ما هبّ ودبّ من موضات فكرية وسلوكية تهبّ علينا من الخارج دون تمحيص واختيار متوازن.
وخامساً، فإن أكثر ما يعيبه البعض فى الغرب حاليا على الأيديولوجيات هو إدعاؤها بأنها وحدها تملك كل الحقيقة ولا غيرها على الإطلاق، وبالتالى فإنها ترفض التعددية السياسية والثقافية والإثنية التى تميز الديموقراطية فى كثير من دول الغرب، وعيبهم من أن الأيديولوجية عندهم ارتبطت بقربها وتعاونها مع كل نظام توتاليتارى نبت فى بعض بلدان الغرب.
فهل من الضرورى أن تتواجد لدينا فى بلاد العرب كل تلك المحاذير؟ وإن وجد بعضها هنا أو هناك فى الماضى ألا نستطيع أن نتجنّبه فى المستقبل بشتّى القوانين الدستورية وبشتّى الممارسات السياسية والاجتماعية الصارمة؟ والجواب فى كلتا الحالتين هو أننا فى بلاد العرب قد تعلمنا ما فيه الكفاية لنتجنّب هذه المطبّات التى واجهتها بعض المجتمعات الغربية.
آن الأوان أن نثق فى قدراتنا.. فى أنفسنا.