‎الموت جوعًا.. أو صمتًا - محمد بصل - بوابة الشروق
السبت 26 يوليه 2025 1:50 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

‎الموت جوعًا.. أو صمتًا

نشر فى : الخميس 24 يوليه 2025 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 25 يوليه 2025 - 12:54 ص

تدرك إسرائيل أكثر منا جميعًا أن كل كلمة تفضح جرائم الحرب والإبادة الجماعية فى غزة تساهم فى تنامى الوعى العام بالقضية الفلسطينية فى جميع دول العالم، والذى بات أقوى من أى وقت مضى من بعد «طوفان الأقصى» حتى فى العواصم الغربية التى ليس لها تاريخ طويل أو مواقف سابقة مشهودة للدفاع عن حقوق أصحاب الأرض، غير القابلة للتصرف.

‎يتبع اللوبى الصهيونى الممتد بأذرعه الطولى، اقتصاديًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا، تكتيكات مختلفة لإخماد حركة الوعى، بهدف تخفيف أى ضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو يمكن ترجمتها مستقبلا إلى عقوبات أو مواقف جذرية متشددة، وأيضا للحيلولة دون تشكيل جبهة واسعة عابرة للعواصم والقارات تناهض المخططات التوسعية المستقبلية فى فلسطين والمنطقة بأسرها.

‎تتنوع تلك التكتيكات بين العقوبات والتهديدات المباشرة والتحرش المستمر كما يحدث مع المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيزى والمدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان وغيرهما من مسئولين دوليين انخرطوا فى التصدى لجرائم القتل الجماعى والتجويع حتى الموت ومنع إدخال المساعدات الإنسانية والتغيير العمدى للتركيبة السكانية عبر التهجير المستمر والنقل القسرى داخل قطاع غزة وإلى الخارج أيضًا، وكلها من الصور المحددة لـ«جريمة الحرب» وفق المادة الثامنة من نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.

‎وعلى الصعيد الإعلامى نلمس بصمات اللوبى، غربًا وشرقًا، فى تجاهل الوكالات الدولية والمؤسسات الإعلامية الكبرى لأحداث مهمة ومفصلية، كما يحدث مع «مجموعة لاهاى» التى تشكلت مطلع العام الجارى وعقدت مؤتمرًا فى العاصمة الكولومبية بوجوتا منذ عشرة أيام ونتجت عنه قرارات مهمة (حدثتك عنها عزيزى القارئ هنا الأسبوع الماضى) وأحيانًا يستشعر اللوبى خطورة صدور الحديث من شخص ذى منصب أو حيثية أو من جهة بعينها، فيلجأ مباشرة إلى سلاح الإرهاب الإعلامى والنفسى لإخراس أى انتقادات موضوعية قد تؤثر على نخبة اتخاذ القرار، أو تؤثر على المزاج الشعبى.

‎فى 25 مايو الماضى كتب الخبير القانونى الألمانى البارز والقاضى السابق بالمحكمة الاتحادية توماس فيشر مقالا مطولا فى «دير شبيجل» بعنوان «الجوع سلاحا» يتهم إسرائيل صراحة بارتكاب جرائم حرب فى غزة خاصة بالتجويع وقطع الإمدادات الحيوية، وبأنها تجاوزت منذ فترة طويلة كل حدود التناسب بين الفعل ورد الفعل، وبالتخطيط لارتكاب تطهير عرقى من خلال خطط واضحة ومتطورة، فى ظل إيحاء مستمر بخرج ذلك العدوان عن ولاية القانون الدولى بزعم عدم قيام دولة فلسطينية مستقلة.

ليس لفيشر أى تاريخ فى نقد إسرائيل، بل إنه طالب بالتشدد مع المتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطينية فى أعقاب بدء العدوان الحالى، ولم يغير موقفه إلا بعد ثلاثة أشهر تقريبا من صدور قرار محكمة العدل الدولية فى يناير 2024 الذى ألزم حكومة وجيش الاحتلال بمجموعة من التدابير المؤقتة لوقف الكارثة، ولم يُنفذ أى منها. بل إن فيشر عمد فى مقاله إلى إدانة حماس ومعادى السامية.


ولأن الأمر يرتبط بالوعى وبالجرائم وبألمانيا، كحاضنة كلاسيكية لسياسات إسرائيل على خلفية الشعور الجمعى بذنب الهولوكوست، شنت صحيفة «يوديشه ألجماينه» الصادرة عن المجلس المركزى لليهود هناك، هجومًا لا يمكن وصفه إلا بالإرهابى، على فيشر وكل من تسوّل له نفسه تجاوز الخطوط الحمراء: «يبدو أن الأمة كلها باتت خبراء.. لتكون ألمانيًا جيدا عليك إدانة إسرائيل ونتنياهو.. الغضب الأخلاقى ليس مجرد موضة.. يساند موظفى الأونروا المتورطين فى مجزرة 7 أكتوبر».

والنتيجة؟ البادى حتى الآن أن فيشر لم يكتب مرة أخرى عن غزة، ولم تنشر «دير شبيجل» معالجات بالقوة ذاتها، وتراجع عدد المواد المنتقدة لإسرائيل بشكل ملحوظ، على الرغم من زيادة عدد الضحايا، والتحرك الدبلوماسى الغربى المتصاعد حتى ولو متأخرًا.

‎هذا نموذج بسيط لقلق الصهاينة من «الكلمة» و«الوعى».

مئات الملايين من البشر اليوم مهمومون بما يحدث فى غزة والجرائم الجسيمة بحق أطفالها ونسائها وشيوخها، ولا يملكون من الإيمان إلا أضعفه! كلمة الحق.. فى مسيرة أو مظاهرة أو بيان أو قطعة صحفية أو تدوينة على مواقع التواصل.

‎وكما أن التجويع يبيد إخوتنا، فإخراس الأصوات وكتمها سلاح لا يقل خطورة، تحلم إسرائيل بأن يبيد القضية برمّتها.

محمد بصل مدير تحرير الشروق - كاتب صحفي، وباحث قانوني
التعليقات