مستقبل الجيل الجديد من الباحثين - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 26 يوليه 2025 12:58 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

مستقبل الجيل الجديد من الباحثين

نشر فى : الجمعة 25 يوليه 2025 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 25 يوليه 2025 - 9:35 م

الأسبوع الماضى شَرُفتُ بمشاركتى فى ندوتين على هامش معرض مكتبة الإسكندرية للكتاب، وهو معرض مهم ومفيد وناجح، وأحب أن أهنئ القائمين عليه وعلى جميع ندواته. الندوتان مختلفتان، لكن يوجد شىء مشترك بينهما: مستقبل الجيل الجديد من الباحثين فى مصر.

الندوة الأولى كانت بعنوان «التاريخ العلمى المصرى الحديث»، وقد اشتركتُ فيها مع ثلاثة من كبار الباحثين المصريين من مصر وإنجلترا وأمريكا. ناقشنا فيها تاريخ البحث العلمى فى مصر خلال المائة عام الأخيرة، والتحديات الراهنة، وكيفية مواجهتها كى نكون مستعدين للمستقبل. فمن يمتلك التكنولوجيا، أى يصنعها ويبتكر فيها، وليس فقط يشتريها، سيمتلك أهم عنصر من عناصر القوة والازدهار.

الندوة الثانية كانت بعنوان «جوائز ومبدعون»، ولها قصة. هى ندوة لتكريم بعض الطلاب فى المرحلة الثانوية فازوا فى مسابقة علمية يجريها سنويًا مركز القبة السماوية العلمى بمكتبة الإسكندرية. كان من المفترض أن يسافر هؤلاء الطلاب إلى أمريكا للاشتراك فى التصفيات النهائية، لكن توقف المساعدات الأمريكية من مؤسسة (USAID)، وعدم منح تأشيرات لمعظم الطلاب، جعلا هؤلاء الطلاب الواعدين يشعرون ببعض الإحباط. وجدير بالذكر أن المجموعة الوحيدة التى تمكنت من السفر، وهى مكوّنة من طالبتين، حصلت على المركز الثانى دوليًا. شَرُفتُ بإلقاء كلمة فى تلك الندوة لهؤلاء الطلاب وأسرهم وبقية الحضور (حضور الندوة كان متاحًا لروّاد المعرض).

فى مقال اليوم، سأشارك القارئ الكريم ما تحدثتُ عنه فى الندوتين، خاصة فيما يتعلق بالجيل الجديد من الشباب الذى يطمح لبدء مسيرته فى البحث العلمى.

• • •

فى الندوة الأولى، تحدثنا عن البحث العلمى فى مصر، سواء تاريخه فى الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين، أو التحديات التى تواجهه فى وقتنا الحالى، و«روشتة» للتقدّم. يمكننى تلخيص بعض النقاط المهمة فى تلك الندوة:

•   عمل بحث علمى جاد، حتى فى ظل وجود مشكلات اقتصادية وقلة موارد، ما زال ممكنًا، وقد ضربنا عدة أمثلة لنقاط مضيئة فى تاريخنا العلمى الحديث. وأدعو القارئ الكريم إلى العودة لمقالات كاتب هذه السطور منذ فبراير 2016 ولمدة عام فى هذا المكان، حيث كان كل مقال يتناول عالمًا كبيرًا قام بعمله وهو فى بلده. قد يكون سافر للدراسة فى الخارج، لكنه عاد وأثمر فى وطنه، مثل الأساتذة الكبار أحمد زكى عاكف، ومحمد كامل حسين، وثروت أنيس الأسيوطى، وغيرهم. وقد تعمّدتُ ذكر أسماء غير مشهورة أثناء الندوة كى نعيدها إلى دائرة الضوء.

•   عندما تقوم بالبحث العلمى فى بلد نامٍ، فأصعب تحدٍّ ليس الحصول على الأبحاث أو البرمجيات المتقدمة، فهذا أصبح متاحًا للجيل الحالى مع وجود الإنترنت، بل التحدى الأكبر هو الوقت. فمع المرتبات المتدنية فى المجال الأكاديمي، يصبح من اللازم على الباحث أن يعمل عملًا آخر بجانب عمله الأساسى، وهذا يأخذ من وقته وجهده. لذا، على الجيل الجديد بذل مزيد من الجهد لإيجاد الوقت اللازم لإجراء بحث علمى معتبر، وهذا موضوع يطول الحديث فيه.

•   هناك أربعة أنواع من البحوث العلمية: بحوث تطبيقية تحل مشكلة واقعية ويظهر تأثيرها على المدى القصير (عدة شهور إلى سنتين مثلاً). بحوث تطبيقية تحل مشكلة لكن تظهر نتائجها على المدى المتوسط أو الطويل. بحوث فى العلوم الأساسية، يقودها الفضول العلمى، ويظهر تأثير بعضها على المدى القصير أو المتوسط أو الطويل. الدول النامية تحتاج إلى التركيز على النوع الأول، حتى وإن لم يؤدِ إلى أبحاث منشورة فى مجلات مرموقة، لأن الأهم الآن هو حل المشكلات، وليس فقط بناء «قوة ناعمة» تتمثل فى الأبحاث المنشورة.

•   يجب على الجيل الجديد من الباحثين، أو من يطمح إلى العمل فى المجال البحثى، أن يستخدم كل الوسائل المتاحة على الإنترنت، وأن يتواصل مع الباحثين فى الخارج (لمناقشة بحوث، وليس من باب التواصل الاجتماعى فقط).

•   من أهم النقاط التى تساهم فى ازدهار البحث العلمى إزالة البيروقراطية المرتبطة بتمويل الأبحاث فى بلادنا؛ إذ إنها تستنزف الطاقة وتؤخر التقدم.

• • •

الندوة الثانية كانت لتكريم المبتكرين والمبدعين الصغار، كما أشرنا فى بداية المقال، وتشجيعهم على المضى فى طريق الابتكار والبحث العلمى. وقد ركزتُ فى تحضيرى لكلمتى فى تلك الندوة على "الفشل"، دون الدخول فى كليشيهات. فإذا صرح أحد الباحثين بأن أبحاثه كلها نجحت، ولم تُرفض له أية ورقة علمية، فهذا يعنى واحدًا أو أكثر من السيناريوهات الآتية:

    •   هذا الشخص يرسل أبحاثه إلى مجلات أو مؤتمرات ضعيفة تنشر معظم ما يُرسل إليها مادامت تُدفع رسوم النشر.

    •   هذا الشخص لا يجرب أشياء جديدة، ودائمًا ما «يلعب فى المضمون».

    •   هذا الشخص يكذب.

فى ذات الندوة، حكيتُ بعض التجارب الشخصية، ثم تحدثت عن (Johannes Haushofer)، الذى كان أستاذًا فى جامعة برينستون، حين نشر سيرته الذاتية المتعلقة بـ«الفشل». أى أنه، بدلًا من قائمة بالأبحاث المنشورة، وضع قائمة بالأبحاث المرفوضة، والجوائز التى رُشح لها ولم يفز بها، إلخ. هذه السيرة الذاتية للفشل انتشرت كالنار فى الهشيم، وكُتب عنها فى مجلات شهيرة مثل الجارديان. وكانت النقطة الأساسية التى أردت توضيحها أن وراء كل بحث منشور كثيرا من التجارب الفاشلة والأبحاث المرفوضة. نحن فقط نحب أن ننشر قصص نجاحنا، لأنها ما يرفعنا فى أعين الآخرين، ويدعم فرصنا فى الحصول على وظائف مرموقة لأننا «نسوّق» لأنفسنا جيدًا. لكن هذا يعطى انطباعًا خاطئًا للجيل الجديد بأن الفشل غير موجود. هذا ما أردت التركيز عليه فى الندوة الثانية.

• • •

مستقبل الدول فى شبابها، وأداة التقدم هى البحث العلمى والتكنولوجيا، ولذلك يجب تعهّد الشباب منذ الصغر وتمهيد طريق العلم والتكنولوجيا لهم. وأعتقد أن هناك بعض الخطوات التى تساعد على الوصول إلى هذا الهدف:

•   من المهم الإكثار من مدارس الـSTEM، أى المدارس التى تركز على العلوم والرياضيات والتكنولوجيا والهندسة، فهذا النوع من المدارس هو مصنع الجيل الجديد من الباحثين.

•   يجب الإكثار من المسابقات العلمية مثل تلك التى ذكرناها فى بداية المقال، لطلاب جميع المراحل الدراسية، من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعية. هذا يساعد على اكتشاف المواهب، ثم نتعهدهم بالرعاية فى مدارس STEM ومدارس المتفوقين.

•   من المهم استغلال موهبة كل شخص، ولا ينبغى الضغط على الطالب ليدرس تخصصًا لا يحبه. فمن يبرع فى الرياضيات ويحبها، يجب أن نوجهه للاستفادة من موهبته فى هذا التخصص، ومن يحب فرعًا من فروع الهندسة، علينا دعمه فى ذلك، إلخ. هذا يتيح لنا تكوين جيش من الباحثين يمكن ربطهم بالأهداف الاستراتيجية للدولة، مثل: تحلية مياه البحر، زيادة كفاءة الخلايا الشمسية، رفع إنتاجية الأرض الزراعية، تطبيقات الذكاء الاصطناعى، تصميم واستخدام الحاسبات فائقة السرعة، التطبيقات العسكرية، إلخ.

•   يجب تهيئة المناخ للاحتفاظ بهؤلاء الباحثين الموهوبين، وتمكينهم من الإبداع فى بلادهم. فـ«نزيف العقول» لا يفيد إلا الدول التى تستقبلهم.

الشباب هم المستقبل، والعلم والتكنولوجيا هما سلاحا المستقبل. لذلك يجب تجهيز جيش من العلماء المسلحين بأسلحة المستقبل.

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات