فى العاشر من أغسطس 2019، تم العثور على جيفرى إبستين «ميتا -منتحرا» فى زنزانته بينما كان ينتظر المحاكمة، وعلى الرغم من كونه السجين الأكثر شهرة فى أمريكا حينذاك، فلم يتم الإفراج عن مكالمة خط الطوارئ 911 التى تم إجراؤها من السجن لاستدعاء سيارة إسعاف، كما أن كاميرات التصوير داخل الزنزانة كانت معطلة ولم تعمل فى هذا اليوم، إضافة لنوم حارسين بالسجن كانت مهمتهما مراقبة زنزانة إبستين والمرور عليها كل نصف ساعة. وفى غضون أسبوع من وفاته، حكم الطبيب الشرعى بأن إبستين انتحر! وهو ما رفضه محامو إبستين وشقيقه الوحيد مارك. ويؤكد مارك أن هناك تسترا، وأن المسئولين الأمريكيين يخبئون الحقيقة.
كما قال مارك لصحيفة «واشنطن بوست» إن أخاه قال له إن بإمكانه قلب انتخابات عام 2016 بسبب ما يعرفه عن كل من دونالد ترامب وهيلارى كلينتون، وقال «إذا قلت ما أعرفه عن كلا المرشحين، فسيتعين عليهما إلغاء هذه الانتخابات».
تجدد النقاش فى الأيام الأخيرة فى الولايات المتحدة حول إبستين، ووفاته الغامضة، وذلك بعد تراجع إدارة الرئيس دونالد ترامب عن تعهدها بالكشف عن وثائق المحكمة، والتى جاءت فى أكثر من ألف صفحة، وتشير لتورط مئات الرجال من النخبة السياسية والمالية والأكاديمية والرياضية والفنية فى الولايات المتحدة وخارجها، فى علاقات مشبوهة مع الرجل الذى كان ينتظر محاكمته بتهم الاتجار بفتيات لا تتجاوز أعمارهن 14 عاما لممارسة الجنس مع هؤلاء الرجال. وطرح الإعلامى الأمريكى تاكر كارلسون تساؤلات عن الجهة التى كان يعمل لحسابها رجل الأعمال إبستين، وعن الكيفية التى حقق بها ثروته الهائلة، ونفوذه الكبير، خاصة أنه لم يكن سوى مدرس للرياضيات، ولم يكمل تعليمه الجامعى، لا يتخطى دخله بضعة آلاف من الدولارات شهريا لا يمكن من خلالها بناء ثروة ضخمة تؤهله لامتلاك طائرات خاصة، وجزيرة خاصة فى البحر الكاريبى وبيوت داخل أرقى مناطق مدينة نيويورك.
• • •
فى الوقت ذاته، عرف الاستياء طريقه إلى الملايين من غضب الكثير من أنصار الرئيس دونالد ترامب المعرفين بتيار «ماجا MAGA - فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، بعد تراجع البيت الأبيض عن الإفراج عن ملفات جيفرى إبستين، وإتاحتها للموطنين الأمريكيين. وكان ترامب قد سبق وتعهد بإتاحة هذه الملفات للأمريكيين ليعرفوا حجم الفساد والسقوط الأخلاقى الذى ضرب رموز النخبة المالية والسياسية الأمريكية بتورطها فى استغلال فتيات قاصرات جنسيا. جاء الإعلامى اليمينى الشهير تاكر كارلسون كأعلى هذه الأصوات الغاضبة من تراجع ترامب عن وعده.
ووسط الحديث عن نفوذ وتغلغل اللوبى الإسرائيلى واليهودى على مراكز صنع القرار ووسائط التواصل المختلفة، يبدو أن منصات البودكاست تمثل الاستثناء. كما تراعى الصحف الكبرى وشبكات الأخبار المتنوعة حساسية اتهام إسرائيل بوقوفها هى أو لوبياتها داخل أمريكا وراء أى من هذه القضايا الحساسة خشية تصنيفها بالعداء للسامية أو التضييق ماليا عليها وتشويه صورتها والإضرار بها.
وتنتشر نظرية أن المخابرات الإسرائيلية - الموساد- قد جندت إبستين، الأمريكى اليهودي، ليقوم بدور القواد لفتيات قاصرات قدمهن لرجال أقوياء لجعلهن عرضة للابتزاز لاحقا.
ذهب كارلسون لاتهام إبستين المباشر بالعمالة لإسرائيل، فقال «من الواضح للغاية لأى شخص يشاهد أن هذا الرجل - إبستين – كان له صلات مباشرة بحكومة أجنبية، ولا يسمح لأحد أن يقول إن تلك الحكومة الأجنبية هى إسرائيل، لأننا أصبحنا مرعوبين للغاية إذا تطرقنا لذلك. لكن لا حرج فى قول ذلك».
لكارسون سجل حافل فى التشكيك فى السرديات الإسرائيلية التى لا يتجرأ الكثير على تحديها أو التشكيك فيها. واستضاف كارلسون المؤرخ والمشكك فى دقة أحداث الهولوكوست داريل كوبر، عدة مرات فى برامجه، ويساوى كوبر حرب إسرائيل فى قطاع غزة بالفظائع النازية التى ارتكبتها ألمانيا بحق يهود أوروبا. ويصف كارلسون كوبر بأنه «مؤرخ أمريكا الأكثر صدقا».
ويرفض كارلسون إدارة السياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط من منظور خدمة مصالح إسرائيل، وهو ما يؤمن به الكثير من المعلقين والخبراء المحايدين. وحذر كارلسون من مشاركة أمريكا فى الهجوم على إيران. وبعد الهجمات الأمريكية على منشآت إيران النووية، وفر كارلوسن منصته للرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان ليتحدث من خلالها لملايين الأمريكيين.
تعقيبا على ما سبق، سببت كلمات كارلسون هزة عميقة لرؤية الجمهوريين الداعمة بشدة لإسرائيل، ولخصوصية علاقتها بالولايات المتحدة. وأضاف كارلسون المزيد من الإثارة بمطالبته بتجريد أى مواطن أمريكى يخدم فى جيش أجنبى، بما فى ذلك فى إسرائيل، من جنسيته الأمريكية على الفور، ويخدم عدة آلاف من الأمريكيين اليهود فى الجيش الأمريكى.
• • •
يتابع كارلسون أكثر من 16 مليون شخص على منصة إكس، ويشاهد ملايين برنامجه الذى يبثه على نفس المنصة. ويحث كارلسون ترامب على «التخلى عن إسرائيل» و«السماح لهم بخوض حروبهم الخاصة».
خلال عام 2021 صعد برنامج «تاكر كارلسون الليلة» على شبكة فوكس الإخبارية ليصبح الأكثر مشاهدة بين برامج الأخبار فى تاريخ شبكات الأخبار الرئيسية، قبل أن يتم فصله من الشبكة فى أبريل 2023 دون أسباب واضحة.
يعتبر بعض المعلقين كارلسون عنصريا شعبويا متطرفا مروجا للعديد من نظريات المؤامرة، إضافة إلى عدم احترامه النساء والمهاجرين والأقليات من غير أصحاب البشرة البيضاء كالأفارقة الأمريكيين واللاتينيين والآسيويين.
وعلى النقيض، يراه الملايين بطلا أمريكيا قوميا لعدائه الصريح للعولمة، ويعدّه الجمهوريون عاملا ضروريا لتحقيق توازن فى إعلام يسيطر عليه تقليديا التيار الليبرالى. ويراه أنصار الرئيس السابق جو بايدن ممثلا لهم فى معركة سياسية أهم أدواتها الإعلام.
يعتبر كارلسون أن استمرار الدعم الأمريكى لإسرائيل، والوصول لدرجة المشاركة المباشرة فى عدوانها على إيران، بمثابة خيانة لمبادئ «أمريكا أولا» التى أيدها العديد من الناخبين الجمهوريين، ويمثل ذلك خروجا حادا عن تعهد ترامب بالابتعاد عن التورط العسكرى فى الشرق الأوسط. ولا يمثل كارلسون صوتا شاذا يغرد خارج أسراب السياسة الأمريكية، بل هو معبر عن شريحة يمينية عريضة من أبرز رموزها النائبة مارجورى تايلور جرين والمفكر الإستراتيجى ستيف بانون، الذين يرون أن على واشنطن التركيز على مخاطر وتهديدات الصين، وأن العلاقة الخاصة بإسرائيل تضر بموقف واشنطن.
يعكس بزوغ نجومية كارلسون تحولا كبيرا، وإن لم يعد مؤثرا بعد فى دائرة صنع القرار الأمريكى، داخل أجزاء من حزب اليمين الأمريكى القومية الذى يريد موقفا حياديا أمريكيا فى الشرق الأوسط ولو كان على حساب إسرائيل.