أقرأ بين الحين والآخر مقالات صحفية أو تعليقات على شبكات التواصل الاجتماعى، يكتبها من كانوا من أشدّ الناس حماسًا للفكر والنضال الوحدوى القومى العربى. فجأة بدأ اليأس، كما يظهر من تلك الكتابات، يدب فى نفوسهم بسبب بعض المواقف الرسمية العربية والإسلامية السلبية المحيّرة المؤلمة تجاه ما جرى وما يجرى فى غزة والضفّة الغربية المحتلة من جرائم إبادة صهيونية مرعبة بحق الإخوة الفلسطينيين.
وكتعبير عن ذلك اليأس بدأ بعضهم بالتهجم على شعارات شبه مقدسة من مثل الأخوة العربية والأخوة الإسلامية ويعلنون عن أنه آن أوان موت الشعارين.
دعنا نطرح فى الحال هذا السؤال: هل أن ما فعله بعض الفقهاء المرتشين عبر التاريخ الإسلامى من تلاعب بتفسير القرآن أو استعمال خاطئ لأقوال رسول الإسلام أو حتى ما قاله هذا الفقيه أو ذاك، وذلك من أجل تبرير تسلط وهيمنة بعض الخلفاء الحاكمين على رقاب العباد، كان مبررا للقول بأن المشكلة هى فى الدين الإسلامى الحنيف، وبالتالى ضرورة تركه، بدلاً من القول بأن المشكلة هى فى بعض أتباعه من الفاسدين؟
الآن وفى هذه اللحظة من حاضرنا هل أن ما يفعله بعض الإرهابيين المجانين، باسم الإسلام، من اعتداءات على أصحاب الديانات الأخرى وعلى النساء أو على أتباع هذا المذهب أو ذاك، يبرّر أن نقول بأن المشكلة هى فى دين الإسلام، دين الحق والقسط والميزان، بدلاً من إلقاء اللوم على هذه الأقلية المعتوهة من شباب وشابات الإسلام الضائعين؟
بل، أليس هذا نفس المنطق الذى يكرره الاستعمار الغربى والصهيونى منذ انتكاسات المدّ القومى عبر الخمسين سنة الماضية، وذلك بالقول لشابات وشباب الأمة بأن يبتعدوا عن الأفكار والشعارات القومية، المنادية على الأخص بضرورة توحيد هذه الأمة فى حقول الاقتصاد والسياسة والاجتماع والأمن والثقافة من أجل تحريرها من الاستعمار وإنهاضها من كبواتها التاريخية التى تعيشها، وذلك بلوم الأفكار والأهداف والاستراتيجيات القومية بدلاً من لوم القيادات والأحزاب القومية التى ارتكبت الأخطاء وأضاعت الفرص؟ الهدف واضح وهو إفراغ الذاكرة الجمعية الشعبية العربية من كل ما قد يوحّد قواها ويوحّد أمتها ويشحذ الهمم للنضال المستمر من أجل تحقيق المشروع النهضوى العربى بمكوناته الست: الوحدة العربية، الاستقلال الوطنى والقومى، الديمقراطية، التنمية الإنسانية المستدامة، العدالة الاجتماعية والتجديد الثقافى والحضارى.
لا أصدق أن هذه المحاذير لم تخطر على بال المنادين بشعارى موت الأخوة العربية والأخوة الإسلامية، فبعضهم يمثلون أروع أنواع المثقفين العرب، فهمًا وحماسًا للانخراط فى صفوف المناضلين. لكننا نعيش فى زمن كل أنواع اليأس والقنوط والإنهاك مما فعلته بعض التطورات الحضارية النيوليبرالية العولمية بالإنسان وعلى الأخص الغربى الذى يسعى أن يجعل مشاعره تلك مشاعر الإنسانية برمتها، بما فيها مشاعر الإنسان العربى، وبالتالى بعض من مثقفينا وكُتّابنا اليائسين.
أن يشعر هؤلاء المثقفون بأشد الآلام، وهم يرون الحالة المزرية التى وصلت إليها الحالة العربية العامة، فهذا طبيعى، ونحن نتعاطف مع أحزانهم ومع ثورات غضبهم. لكنهم يخطئون خطًأ كبيرًا إذا سمحوا لأنفسهم بنشر تلك المشاعر الغاضبة واليائسة فيما بين جماهير المواطنين، وعلى الأخص فيما بين أملهم المستقبلى المتمثل فى شباب وشابات الأمة.
ما تحتاجه طلائع المستقبل هو بناء الحصانة الثورية الملتزمة فى نفوسهم وعقولهم وأرواحهم. ومثل هذا البناء لا يمكن أن يقوم على ركام الشعارات العروبية المقدسة من مثل الأخوة العربية ووحدة النضال وأحلام الأمة الواحدة وغيرها كثير، بل وحتى الموت فى سبيل تلك الشعارات. وإنما يقوم على بناء المثقف العضوى الملتزم الذى سيداوم النضال وسينتصر.