الحل النهائى».. لعبة المصطلح إرث هتلر فى عهدة نتنياهو - إبراهيم العريس - بوابة الشروق
السبت 26 يوليه 2025 1:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

الحل النهائى».. لعبة المصطلح إرث هتلر فى عهدة نتنياهو

نشر فى : الخميس 24 يوليه 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : الخميس 24 يوليه 2025 - 8:00 م

من ناحية مبدئية، ليس ثمة علاقة بين «المستشرق» برنارد لويس وإنكاره لوجود القضية الأرمنية. فهو ليس من مناصرى الدولة العثمانية التى اعتادت أن تنكر وجود تلك القضية، ولا من مناوئى الشعب الأرمنى الذى عانى ما عاناه من المذابح وضروب النفى الجماعى والانزياح الديموغرافى على يد تلك الدولة عند بدايات القرن العشرين. ومن هنا، ثمة دائمًا نوع من الدهشة والاستغراب إزاء مواقف لويس من تلك القضية، القضية التى يتبناها، على أية حال، معظم شرفاء الشعب التركى نفسه دون أن يكونوا من الأرمن. فلويس، ومنذ زمن بعيد، يكاد ينكر وجود تلك «القضية» من أساسها، أو ذلك ما يُؤثَر عنه على أية حال، دون أن يكون ثمة فى كتاباته ودروسه المتعلقة بتاريخ الشرق الأوسط ما يساند أو يفسر مواقفه تلك. فما الحكاية؟

الحكاية ببساطة تتعلق بمواقف لويس المناصرة للدولة العبرية وأيديولوجيتها، سواء كانت صهيونية أو عقائدية دينية. ولئن كان جديرًا بالملاحظة أن نلاحظ أن برنارد لويس قد غاص أكثر فأكثر فى إنكار وجود «قضية أرمنية» منذ النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، لا بد من الإشارة إلى أن ذلك تزامن مع إمعان الفكر الصهيونى – الإسرائيلى فى «اكتشاف» قوة الدور الذى يمكن أن يلعبه المصطلح، وبالمعنى العام للكلمة، فى الصراعات، ولا سيما فى زمن بات الإعلام فيه ليس فقط جزءًا أساسيًا من الصراعات، بل سلاح ماض فيها. ومن هنا، بدا للويس «طبيعيًا» أن أى حديث عن «مجزرة» ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن سوف «يشاغب» على أى حديث عن المجازر التى ارتكبها النازيون بحق اليهود.

ونعرف أن الفكر الصهيونى أتقن جيدًا، ومنذ ذلك الوقت المبكر، استخدام المصطلحات لدعم ما يتراءى له من سياسات، وواصل فى ذلك إلى حد الابتذال، والابتزاز.
ومن هنا، حسب الباحث أن يسبر أغوار كتابين على الأقل، هما بالتحديد: من ناحية، «بروتوكولات حكماء صهيون» الذى يمكن بالفعل اعتباره دسا استخباراتيًا من شغل المخابرات القيصرية الروسية لتبرير مذابح وقع اليهود ضحية لها فى زمنه، ومن ناحية ثانية، «كفاحى» لهتلر، ليعثر على جذور العديد من السياسات التى تمكن الفكر الصهيونى عبرها من أن يشكل خطابات سياسية تاريخية يمكن القول إنها كانت وراء تحويل الحرب العالمية الثانية من معركة كولونيالية وأيديولوجية بين أمم معظمها لا علاقة له باليهود لا من قريب ولا من بعيد، إلى معركة ضد.. اليهود! حسب المرء أن يتفرس فى الكتابين، بين أدبيات أخرى كثيرة، على ضوء السياسات الإسرائيلية، ليكتشف كم أن ما فى الكتابين كان من أساسيات بناء الفكر الصهيونى، منذ احتاجت الأيديولوجية الصهيونية إلى تجديد فى بنيتها يستعيد دور الضحية، وبخاصة بعدما ألبستها حرب «الأيام الستة» (هزيمة يونيو 1967) ثوب الجلاد الذى وجدته غير مربح، فاستنفرت فكرها وأصدقاءها، ومنهم برنارد لويس، وقطاعات عريضة من الإعلام الغربى، لتشتغل على لعبة مصطلحات مكنتها من الاستحواذ على تعبيرات مثل «المحرقة»، و«الغيتو»، و«النفى»، و«الخروج»، وصولًا إلى مصطلح وجدته بسهولة لدى هتلر نفسه، يتحدث عن «الحل النهائى».. فاستحوذت عليه.

وهى استحوذت عليه بمعنى أنها لم تكتفِ باستخدامه بحسب الطلب والمصلحة الدائمة أو المؤقتة، بل راحت تحاول جهدها منع الآخرين من استخدامه: لم ترد له أن «يُبتذل»، بل أن يبقى حكرًا على التاريخ اليهودى الحديث والمعاصر. وراحت فى ذلك السبيل تكبّل كل صوت يحاول أن يقول عكس ذلك، وبخاصة إن كان صوتًا يهوديًا (ونعرف الكثير بالطبع عمّا جوبهت به هانا آرندت، الفيلسوفة الألمانية–الأمريكية، حين ذهبت إلى القدس فى بدايات ستينيات القرن العشرين لتغطية محاكمة إيخمان، فعادت ببضعة أفكار تقف فى تعارض مع المواقف الرسمية الإسرائيلية، لتُعتبر «ابنة صهيون الضالة»، حتى من أقرب أصدقائها، فكان كتابها المشاكس «إيخمان فى القدس».

ولئن كان من الطبيعى هنا أن نذكر حالة آرندت، فسوف نذكر حالة أخرى قد تكون أقل أهمية بكثير، لكنها تحمل دلالة أكثر وضوحًا: حالة فيلم فلسطينى عنوانه «حتى إشعار آخر»، حققه رشيد مشهراوى، السينمائى ابن غزة، فى التسعينيات. يقينًا أن الفيلم ليس تحفة سينمائية، ومع ذلك، استشعر الفكر الإسرائيلى خطورته من خلال استعراضه موضوعًا يستحوذ على فكرة «الغيتو»، محوّلًا الغيتو إلى حيز فلسطينى يخلقه الغزّاويون وسط حالة حصار إسرائيلية لبيوتهم، فيفتحون عالم الداخل بين الجيران والأهل، ضاربين الصفح عن ضرورة استخدام أبواب البيوت للتنقل والتواصل. فى ذلك الحين، بدا هذا الفيلم، من خلال تلك الاستعارة لمفهوم «الغيتو» فلسطينيًا، أكثر خطورة على الفكر الصهيونى حتى مما اعتقد صاحب الفيلم وجمهوره.

الحقيقة أن ذلك الجانب من الفيلم مرّ هكذا مرور الكرام، من دون أن يُشتغل عليه كما يستحق، تمامًا كما تمر كل المبادرات من هذا النوع، سواء كانت مقصودة أو عفو الخاطر. ففى النهاية، ما يشتغل عليه الفكر الصهيونى بتعمق، وباستنفار للأكاديميين والعلماء والمؤرخين، وصولًا إلى الصحفيين والإعلاميين والسينمائيين، غالبًا ما يبدو عفويًا فى ممارساتنا الثقافية، بحيث لا تبدو أهميته للجمهور العريض المعنى به، وبخاصة للجمهور الواعى فى العالم الخارجى، إلا بصورة متأخرة.

وإذ نقول هذا هنا، يحضرنا مصطلح يبدو للوهلة الأولى شديد الوضوح، بل بالغ البداهة، لكن الغريب أننا لم نجده، بعد، قيد الاستخدام، رغم أنه ينطبق اليوم على ما يحدث فى غزة – وبشكل أكثر تحديدًا، على السياسات التى يمارسها اليمين الإسرائيلى المتطرف فى فلسطين، ويكاد يبرز باسمه الحقيقى، لا المستعار – ونعنى به مصطلح «الحل النهائى». فما يحدث فى غزة، وامتدادًا فى الضفة الغربية، ومنها إلى كل الفضاء الجغرافى والديموغرافى المحيط بالمساحة التى تشغلها الدولة العبرية الآن، حيث تجرى محاولة بالغة الجدية والخطورة لخلق فراغ «منزوع السلاح»، مدجّن للسكان المحليين، غايته تأمين المناطق الإسرائيلية المتاخمة. إن ما يحدث يتخذ فى ظاهره طابع الحملة التأديبية «الدفاعية»، لكن الحقيقة فى مكان آخر يمكننا أن نعثر عليه تحديدًا فى التراث الهتلرى، ويشكّل هاجسًا من هواجس «كفاحى»: إنه «الحل النهائى» الذى يعد به الزعيم النازى اليهود، ويشكّل الخلفية السياسية والأيديولوجية الحقيقية للحدث الكبير الذى تعيشه منطقتنا الآن.«الحل النهائى» لما كان، حتى السابع من أكتوبر، يسمى «القضية الفلسطينية»، لكنه بات اليوم، ومن دون أن يحمل هذا الاسم المنتمى إلى التراث الهتلرى، يتعلق بجزئيات تغيب الموضوع الأساسى، جاعلة من تجويع الفلسطينيين، وإبادة أجيال بأكملها من أطفالهم، ومسألة إفراغ غزة أو «تعميرها»، والصلاة أو عدم الصلاة أيام الجمعة فى الأقصى.. وغير ذلك من قضايا لا علاقة لها مباشرة بالقضية الحقيقية، جاعلة من هذا بديلًا عمّا هو جوهرى، ولكن، من دون أن «يجرؤ» أحد على استخدام المصطلح نفسه – طالما أنه «بالطبع» من ممتلكات الفكر الصهيونى، كإرث من غنائم الحرب العالمية الثانية، كما حال «المحرقة»، و«النفى»، و«السبى».. أليس كذلك؟ وبالتالى، ها هو نتنياهو يستحوذ على «الحل النهائى»، منتزعًا إياه من سلفه الكبير فى الإجرام الجماعى، أدولف هتلر، ليمارسه، وبشكل يكاد يكون حرفيًا، ضد الفلسطينيين وقضيتهم. ومن هنا، يبرز سؤال لا بد من الإجابة عليه: أهناك من يجرؤ على القول، فى استعارة بالتواتر من نتنياهو المستعير من هتلر، إن معركتنا اليوم إنما هى معركة «الحل النهائى؟».

إبراهيم العريس إبراهيم العريس
التعليقات