ستحل، بعد بضعة أيام، الذكرى الأولى لسقوط سلطة بشار الأسد فى سوريا وتولى سلطة جديدة مصير البلاد. وبالطبع ستشكل هذه المناسبة فرصةً لمراجعة حصيلة الإنجازات التى تمت، كما النواقص والإخفاقات، من قبل السوريين أنفسهم قبل كل شىء، مواطنين وسلطة، ومن قبل الخارج.
بالطبع، ليست سهلة على أية سلطة معالجة أربع عشرة سنة من الصراع الداخلى، المباشر وبالوكالة، والخروج بالبلاد من أزمتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإعادة توحيدها ولأم جراحاتها. لكن قراءة إنجازاتها وإخفاقاتها تبقى مسئولية مطلوبة فى منظور المستقبل.
لقد كسب السوريون حقا على صعيد مبادئ «الثورة» التى قامت عام 2011، فيما يخص... الحرية: هذا من خروج معتقلين من سجونٍ ظالمة وتمكن السوريين من البوح بآرائهم بشكلٍ كبير، وعودة الكثير بترحابٍ ليزوروا أو يبقوا فى وطنهم بعد حرمانهم من ذلك لسنين طويلة. لكن الحريات العامة بقيت معلقة بأغلبيتها، إذ تم رسميا حل جميع الأحزاب السياسية، بما فيها تلك التى ناضلت طويلاً ضد السلطة البائدة، وبقى عمل الجمعيات المدنية مقيدا ويحتاج إلى تراخيص معقدة. وهذا يقوض معنى «الانتخابات» التى أُقيمت، ويقلص الحراك الاجتماعى الضرورى لألم جراح ومظالم سنين الصراع الطويلة. هكذا بقيت الحريات دون مؤسساتها الاجتماعية، وحلت مكانها وسائل التواصل الاجتماعى التى لا يُمكِن أن تؤسس لحوار مجتمعى ولصون حق الاختلاف فى الرأى.
• • •
إلا أن السوريين والسوريات لم يكسبوا كثيرا على صعيد... الكرامة؛ إذ ما زال ثمانون بالمائة منهم يقبعون تحت خط الفقر ويعتاشون بفضل أقربائهم فى الخارج وبعض المساعدات الدولية. صحيحٌ أن الحركة الاقتصادية تحسنت قليلاً، وزاد الأمل مع الإلغاء التدريجى للعقوبات وبعض الاستثمارات الجديدة، إلا أن المعالجات بالصدمة التى واجهوها أثقلت عليهم: ذلك انطلاقا من طرد عشرات الآلاف من وظائف حكومية دون صيغة قانونية واضحة، أغلبهم مدرسون ومدرسات أو عاملون فى قطاع الصحة، ثم عدم الإنصاف فى الأجور، وانتهاءً بالزيادة الضخمة لأسعار الكهرباء والاتصالات. هذا دون أية سياسات عامة للحماية الاجتماعية أو خطة للنهوض الاقتصادى. فقط «اقتصاد حر» (!).
كذلك لم يكسب السوريون والسوريات كثيرا على صعيد... المساواة فى المواطنة؛ إذ ارتفع منسوب «الطائفية» لدى الجميع بشكلٍ لا سابق له، مع غياب آليات المحاسبة والمصالحة الحكيمة التى تعالج المظالم والمطامع السابقة والحالية، واستبدالها بآليات غير شفافة تتعامل مع كبار لاعبى السلطة البائدة، مع ترك المجتمع يتعامل وحده مع تحديات إشكاليات تمزق أواصره، وفى غياب مؤسسات حقيقية. وقد جاءت أحداث الساحل والسويداء، واستمرار التفرقة مع شمال شرق البلاد لتؤدى إلى تفاقم الأوضاع. هذا فى حين يسود خطاب عام بأن الانتقامات الفردية التى تحدث كل يوم أقل بكثير مما كان متوقعا، لكن ما يشكل بحد ذاته تهديدا ضمنيا للسلم الأهلى المستقبلى.
وتبقى قائمة إشكالية إنشاء مؤسسة عسكرية وأمنية... وطنية، بعد أن تم حل الجيش السورى السابق والأجهزة الأمنية، وفى ظل صعوبات دمج الفصائل المسلحة التى قامت خلال سنوات الصراع، خاصةً الأجنبية والجهادية منها، وفى ظل انتشار السلاح بشكلٍ كبير فى البلاد. علما بأن شعور المواطنين بالأمان وثقتهم بحياد المؤسسات العسكرية والأمنية تجاههم ركائز لأية نهضة فعلية للبلاد.
• • •
بالمقابل، أتى النجاح الأكبر للسلطة الحالية فى سوريا على الصعيد الخارجى والدبلوماسى، خاصةً من خلال اللقاءات مع الرئيس الأمريكى، برعايةٍ سعودية، بقصد رفع العقوبات الاقتصادية التى شكلت المعاناة الأكبر للسوريين. كما تم رفع صفة «الإرهابيين» عن رموزٍ فى السلطة الحالية. كذلك تم تطبيع العلاقات مع روسيا، رغم صعوبة التوفيق بين الأمرين. لكن هذا النجاح لم يترافق مع كبحٍ للغطرسة الإسرائيلية وتراجعٍ عن احتلالها لأراضٍ سورية جديدة وتدخلها فى شئون البلاد. ويبدو أن الثمن هو عزل سوريا عن القضية الفلسطينية وعن لبنان وكذلك عن العراق. وليس واضحا إذا كان الدعم الأمريكى الحالى سيؤدى حقا إلى إعادة توحيد البلاد.
أيضاً لقد نجح الحكم الجديد فى سوريا وبشكلٍ سريع فى تكوين... سلطة: هيئات سياسية تولت مراكز حزب البعث القديمة، و«قائمون على الأمور» فى الوزارات والمؤسسات، يتدخلون فى عمل الدولة على الصعيد المركزى والمحلى والمؤسسى، دون الالتزام بالقوانين والأصول المرعية. هكذا تمت إعادة تشكيل سلطة ما فوق الدولة، مع غياب أية محاسبة على قراراتها. واستمر تفكك مؤسسات الدولة دون أن تُنشَر حتى الآن لا موازنة عامة ولا حسابات مصرف مركزى، مع الوصول إلى إعلان «استقلالية مالية وإدارية» (!) لوزارات. هذا كله دون وضوح حول كيفية دمج المؤسسات التى كانت قائمة فى شمال غرب سوريا ضمن الدولة السورية.
كذلك بقيت الإدارات المحلية غير قادرة على تأمين أغلب الخدمات الأساسية للمواطنين، فى حين عاد أكثر من مليونى نازح داخلى ومليون لاجئ إلى مناطقهم الأصلية، المدمرة أحيانا؛ ما يشكل عبئا كبيرا، خاصة أن النظام القضائى ما زال متعثرا، بما فيه أمام قضايا الملكيات وحق السكن.
كذلك تم التصريح بأن الدولة لن تتدخل مباشرةً فى إعادة الإعمار، بما فى ذلك إعمار البنى التحتية، وأن الأمر سيُترَك للاستثمارات، خاصةً الخارجية، وأن هذه الاستثمارات فُرَصٌ فريدة لمن يتسابق عليها (!). هكذا دون قواعد حول آليات منح هذه الاستثمارات، وغياب الشفافية حول كيفية إعطائها، أو حول العمليات القائمة حالياً فى قطاعات رئيسية كالاتصالات والطاقة والكهرباء والمصارف والصفقات المبرمة فى مجالاتها.
• • •
بالطبع ستقام احتفالات كبرى فى ذكرى سقوط السلطة البائدة، وسيتم بهذه المناسبة الإعلان عن إنجازات جديدة، ليس فقط قصة العملة النقدية الجديدة، بل أيضا عن استثمارات تم إقرارها بالفعل وتجرى الآن دون تغطية إعلامية كبيرة. وربما ستأتى شخصيات مرموقة من دولٍ خارجية لحضور هذه الاحتفالات.
بالتأكيد من حق المواطنين والمواطنات السوريين أن يحتفلوا بسقوط استبداد وبزوال عقوبات جائرة فُرضت عليهم وأنهكتهم. ولكنهم يستحقون أكثر أن يحتفلوا يوما بإعادة توحيد البلاد وبسيادة دولتهم على كامل أراضيها دون قواعد واحتلالات أجنبية. ويستحقون الاحتفال أيضاً بالتئام جراحهم الاجتماعية والطائفية والإثنية فى ظل دولة قانون ومؤسسات ومواطنة متساوية تعمل على خدمتهم، دولة خاضعة للشفافية والمحاسبة. ويستحقون أن يحصلوا على عملٍ يعيد كرامتهم بعد العوز والمعونات. كما يستحقون أيضا أن يحتفلوا كذلك بإعادة إنشاء جيش وأجهزة أمنية تصون بلادهم ومحايدة سياسيا، يحيونها صباحا: «مرحبا يا وطن» (!). ويستحقون كذلك أن تكتمل حرياتهم الفردية والجماعية عبر تنشيط الحياة السياسية فى بلادهم، كى تتصارع فيها برامج للنهوض بالجميع.
مطالب للاحتفال قد تبدو مثالية، فى زمن فوضى إقليمية وعالمية. ولكن ما الذى يستحق فعلا الاحتفاء به؟ وما هدف ما يسمى الانتقال المطلوب من السلطة الحالية، سوريًا ودوليا؟ أليست الحرية والكرامة؟ أليست السيادة والمواطنة؟
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب