كانت الأشجار فيما قبل العصور الوسطى جزءًا من الحيز الخاص بالمساكن، مثلًا فى إطار حدائق الأغنياء، ثم مع نهاية القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر حدث تغير لافت، وخاصة مع نهاية عصر التنوير وبدايات فترة الباروك، حيث سمح التغير فى التقنيات الحربية ببناء تلال من التربة حول المدن مثل أنتورب وأمستردام وستراسبورج، وتمت زراعة مصفوفة من الأشجار بها كى تمنع تآكل تلك التربة. وتم تبنى تلك الطرق المصفوفة بالأشجار منذ ذلك الوقت فى العديد من المدن وداخلها أيضًا. وفى القرن الثامن عشر أدت مطالبات الطبقات المتنامية من التجار الحضريين بتوفير الخدمات والمنافع التى كانت سابقًا حكرًا على الطبقات الأرستقراطية إلى تطوير العديد من الحدائق العامة. كان لذلك تأثير فى مصر فى عصر محمد على، الذى أنشأ ابنه إبراهيم باشا فى عهده حديقة فى الروضة، وتم استجلاب العديد من أشجار الزينة لها. وبلغت تلك الحركة أوجها فى عصر الخديوى إسماعيل بإنشائه ست حدائق كبرى فى إطار مشروعه لتحويل القاهرة إلى ما يسمى بـ«باريس الشرق».
مع بدايات الثورة الصناعية فى النصف الأول من القرن التاسع عشر فى أوروبا جاءت اللحظة التأسيسية لسياسات المناطق الخضراء فى العقد الرابع منه، كنتيجة لما جاء فى تقرير لجنة شكلها البرلمان البريطانى لبحث الحاجة إلى المناطق المفتوحة فى المدن الصناعية. وأوصى التقرير، الذى أكد على الحاجة إلى التريض والهواء النقى للأعداد المتزايدة من ساكنى المدن، بتأسيس الحدائق العامة فى المدن لتحسين أحوال المعيشة بها. وكنتيجة مباشرة قامت مدن مثل مانشستر (مهد الثورة الصناعية) وسالفورد بتأسيس المتنزهات البلدية. وفى سبعينيات القرن التاسع عشر بدأ رسميًا دمج ذلك فى التخطيط العمرانى فى المدن الأوروبية الأخرى، مثل باريس على يد هاوسمان، وبرشلونة على يد سيردا. ومع نهاية القرن التاسع عشر وظهور تخطيط المدن كمهنة، قام Ebenezer Howard فى عمله المفصلى «المدينة الحدائقية» بالتعامل مع المناطق الخضراء كمناطق متكاملة مع المدينة، وهو ما أثر على تخطيط المدن لاحقًا فى أنحاء العالم. وبناء عليه نصّ قانون الإسكان وتخطيط المدن فى بريطانيا فى نهاية العقد الأول من القرن العشرين على إلزام السلطات المحلية بعمل مخططات للمدن تتفق مع معدلات معينة من المبادئ للمبانى والحدائق. وخلال القرن العشرين تم تطوير «المعدلات المعيارية» كمدخل كمى للتعامل مع المناطق الخضراء كنسبة لعدد السكان، وتم سن بعض القوانين مثل «الحفاظ على المناطق الخضراء» فى عدة بلدان مثل اليابان فى 1973 لحماية وتنمية المناطق الخضراء الحضرية.
• • •
تدخلت منظمة الصحة العالمية فى هذا النقاش عام 2016، ومن خلال تقرير عن المناطق الخضراء الحضرية والصحة، والمبنى على مراجعة للأدلة المتوافرة، طالبت بأن يستطيع سكان المدن الوصول إلى مناطق خضراء تتراوح بين فدان وفدانين ونصف (فى النص بين نصف هكتار وهكتار)، لا تبعد أكثر من خمس دقائق مشيًا (حوالى 300 متر). كما أوصت المنظمة بأن يكون نصيب ساكن المدينة من المناطق الخضراء لا يقل عن تسعة أمتار مربعة.
تركز الدراسات الحديثة فى مصر على النقطة الخاصة بنصيب الفرد فى المدينة من المسطحات الخضراء، والتى تقدّرها بعض الدراسات التى استندت إلى النشرة السنوية لجهاز التعبئة العامة والإحصاء لسنة 2020 بحوالى 17 سنتيمترًا فقط، ترتفع فى جنوب سيناء لتبلغ 161 سم، وتنخفض فى مناطق مثل القليوبية والفيوم وقنا ومطروح إلى 2 سم، بينما المدن الحضرية الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد فتبلغ متوسط قدره 39 سم. (بعض الدراسات الأخرى تضع الرقم فى عام 2020 عند حوالى 0.74 م²). هناك أرقام متفاوتة فى عدد من الدراسات تشير إلى إشكالية فى توافر ومراجعة دقة المعلومات فى هذا الخصوص، لكن على الرغم من ذلك تمثل تلك المتوسطات المقدرة فارقًا كبيرًا حتى عن المعدل المتواضع (مقارنة بتوصية منظمة الصحة العالمية) الموجود فى رؤية مصر 2030، والذى يصل إلى 3 أمتار مربعة فقط. لن أتناول هنا قضية أخرى غاية فى الأهمية، وهى الخاصة بالوصول إلى المناطق الخضراء طبقًا للتوزيع الجغرافى لها، ربما لعدم معرفتى بوجود دراسة دقيقة تتناول توزيع وصول الناس فى المناطق المحلية لأقرب حديقة.
تقارن بعض تلك الدراسات نصيب الفرد فى مصر من المسطحات الخضراء بغيره من الدول، وإحدى تلك الدراسات مثلًا قارنت نصيب الفرد فى مصر من الأشجار المقدر بحوالى شجرة واحدة، بنصيب الفرد فى كندا من الأشجار البالغ تسعة آلاف شجرة، متجاهلة حقيقة أن مصر تقع بالكامل تقريبًا فى إطار أحيائى (ما ينطق بالإنجليزية «بيوم») صحراوى يخترقه نهر النيل بالطبع، بينما تقع كندا فى إطار أحيائى يسمى غابة البوريل، ويغلب عليه الغابات نظرًا لمعدلات سقوط الأمطار الكثيفة التى تبلغ فى المتوسط حوالى 530 مللى مقارنة بـ29 مللى فى مصر.
• • •
قد زاد الاهتمام فى السنين الماضية بالمساحات الخضراء، خاصة لتنامى المعرفة بالتحدى الذى يمثله التغير المناخى ودور النباتات، وخاصة الأشجار، فى التكيف والتخفيف من تبعاته. للأسف لم تحظَ كارثة تدهور التنوع البيولوجى باهتمام مماثل حتى الآن، وإن كان العلماء يقدّرون أنه ربما يمثل تحديًا أكبر. ووضعت اللجنة الدولية للتنوع البيولوجى والخدمات البيئية، والمنوط بها توجيه التعامل الدولى مع تلك الكارثة، فى 2022 إطارًا دوليًا سمى «إطار كونمينج – مونتريال»، الذى جاء من خلال مؤتمر الأطراف الخامس عشر، وقد وضع إطارًا متكاملًا للتعامل مع هذا التحدى، ووضع له إطارًا زمنيًا للتنفيذ، أحد علاماته المهمة العام 2030، وذلك بهدف وقف التدهور فى التنوع الطبيعى ثم دعم ازدهار المنظومة الطبيعية فيما بعد ذلك.
هناك نقطتان رئيسيتان فى هذا الإطار أو الاتفاقية: الأولى تدعو للحفاظ على ثلاثين فى المائة من المناطق الطبيعية (تمثل المحميات القائمة فى مصر الآن أقل قليلًا من خمسة عشر فى المائة من المساحة الكلية، كما طرأت تخفيضات على مسطحات بعضها فى السنوات الماضية كما حدث فى محميات جزر النيل أو وادى دجلة وغيرهما). أى إنه طبقًا لهذا البند يجب أن تقوم مصر بوضع خطة لزيادة مسطحات المحميات ودعمها بالباحثين البيئيين والأدوات اللازمة.
أما النقطة الثانية فتدعو لاستعادة ثلاثين فى المائة من المناطق المتدهورة بيئيًا. ولتحقيق هذا الهدف، الذى يمثل تحديًا بالنسبة لنا فى مصر، يمكننا الاستعانة بالخبرات الفنية العالمية فى هذا المجال، وخاصة تلك التى تتناول استعادة مناطق الأراضى الرطبة مثل البحيرات الشمالية، والتى شهدت تدهورًا كبيرًا خلال المائة والخمسين عامًا الماضية. وتمثل تلك المناطق أحد المناطق الرئيسية للتنوع البيولوجى فى مصر. كما يمثل نهر النيل أحد المناطق الطبيعية المهمة للغاية، والتى شهدت تدهورًا كبيرًا خلال الفترة نفسها.
يمكن أن نفهم تلك الاتفاقية، المؤسسة على العديد من الدراسات التى تثبت الدور الحاسم للتنوع الطبيعى فى استمرار الحياة على الأرض، كدعوة لأن نتحول من تمسكنا بالمعدلات التى صاحبت تدخل الإنسان غير الواعى فى الطبيعة، لعدة أسباب؛ منها أن المناطق الطبيعية الحاسمة هنا هى تلك المناطق ذات الطبيعة البرية وليست تلك التى يقوم الإنسان بتصميمها وتنفيذها، متجاهلًا التركيب المعقد والأدوار الحاسمة التى تلعبها جميع الكائنات فى تواجدها معًا، إذ بدون بعضها، مهما قل عدده أو استصغرنا شأنه، تتهوى دورة الحياة على الأرض. كما أننا فى تركيزنا على الأشكال والألوان أدخلنا العديد من النباتات والطيور والكائنات الأخرى التى تُصنف على أنها غازية، تسبب ضررًا بالغًا بالمنظومة البيئية ككل. لم نعرف أن الحدائق، وإن كانت فى ذاتها جميلة، لكنها متفرقة لا تدعم شبكات وموائل طبيعية متصلة، وبالتالى لا تدعم التنوع الطبيعى.
نحن بحاجة لعمل شبكات تسمح للطبيعة بتواصل أجزائها مجددًا، فنرى النيل وقد استعاد شطآنه تلك المنظومة المركبة من أشجار وشجيرات وحشائش برية، تدعم الكائنات الأخرى تحت الماء وفوقه، وتحسن من جودة المياه، وتفرعت منه تلك الشبكات داخل نسيج المدينة لتصل إلى أطرافه حيث المنظومات الطبيعية الأخرى. عمل تلك المسارات سيحتاج لمجهود وذكاء ومعهما إرادة سياسية ومجتمعية. تلك المسارات، كما يقول دوج تالامى، لن تكفى وحدها، ولكنها ستحتاج دعمًا واتصالًا مع حدائق متعددة، كما ستحتاج مجهودات أخرى متعددة يشارك فيها الكثير من المواطنات والمواطنين.
لدينا نافذة زمنية محدودة، وعلينا أن نضع هذا العمل على رأس أولوياتنا «الآن» وليس فى المستقبل القريب.
أستاذ العمارة بجامعة القاهرة