خمس سنوات من التنقل شبه المستدام - نبيل الهادي - بوابة الشروق
السبت 28 يونيو 2025 12:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما توقعاتك لمعارك إسرائيل مع إيران؟

خمس سنوات من التنقل شبه المستدام

نشر فى : الخميس 26 يونيو 2025 - 8:40 م | آخر تحديث : الخميس 26 يونيو 2025 - 8:40 م

طرق التنقل التى نصل بها إلى مختلف الأماكن التى نحتاج الوصول إليها، أو أنواع الطعام الذى نأكله، تشكل طريقتنا فى الحياة، كما تؤثر على جودة حياتنا، وتؤثر الطاقة التى نحتاجها فى هذا التنقل بصورة كبيرة على كمية الموارد التى نستهلكها. وتأتى الصراعات التى تحيط بنا والتى تهزنا وتوجعنا كثيرا لتذكرنا بمدى حاجتنا لإعادة التفكير فى تعاملنا مع الموارد المتاحة لنا، والتى هى فى طبيعتها محدودة حتى لو ظننا عكس ذلك.

لكن الأكثر أهمية هنا أن جزءا كبيرا منها يأتى من خارج حدودنا وفى ظل التأثيرات التى شهدناها من قبل، والتى ربما نشهدها مستقبلا، فنحن بحاجة للتفكير فى قدراتنا ومواردنا المحلية، وكيف يمكن أن تلبى الجزء الأكبر من احتياجاتنا. وضع هذه التحديات الحالية فى إطار التحديات الأخرى مثل التغير المناخى، وتدهور التنوع الطبيعى يتطلب منا العمل فى أسرع وقت لبناء نوع من المرونة الداخلية. وفى هذا الإطار لى تجربة شخصية قد تلقى الضوء بصورة أفضل على كيفية بناء تلك المرونة خاصة فى إطار التنقل.

• • •

بدأت، فى ربيع ٢٠١٣، تدريس مقرر للطلاب عن العمارة والدراجة، وبعدها بشهور قليلة نقلت دراجتى من بيتى إلى كلية الصيدلة القريبة من محطة مترو السيدة زينب، وأصبح روتينى اليومى أن أركب سيارتى إلى مكتبى فى المعادى وعندما يحين وقت ذهابى للجامعة أركب سيارتى مرة أخرى لمكان مجاور لمحطة المترو، ثم أركب المترو لمحطة السيدة زينب، ومن كلية الصيدلة أقود الدراجة لكلية الهندسة وهو ما يستغرق عادة حوالى عشر دقائق. وفى العودة أقوم بنفس الفقرات، ولم يمنعنى شهر رمضان الذى صادف وقتها الصيف، إذ وصلت فيه درجة الحرارة إلى ٤٣ درجة، من القيام بهذا الروتين مرتين أو ثلاث أسبوعيا. حتى حدثت جائحة كورونا واضطررت لإعادة دراجتى مرة أخرى للبيت.

كنا آنذاك، فى مارس ٢٠٢٠، وأردت الابتعاد عن المصادر المحتملة للعدوى وفى نفس الوقت أسمح لنفسى ببعض التواصل مع الحياة الطبيعية حتى أتمكن من الحفاظ على سلامتى العقلية، ولذلك بدأت فى استخدام الدراجة للوصول إلى مكتبى كتجربة أولية اكتشفت سريعا كم هى رائعة، وقمت بعد ذلك باعتمادها كوسيلة تنقل أساسية. كنت أقود دراجتى بمتوسط خمسة وعشرين كيلومترا يوميا أكثر من نصفها بمحاذاة النيل حيث جودة الهواء أفضل، وحيث الطبيعة التى تريح النفس وتقلل من الإجهاد كما تعطى فرصة أفضل للتفكير.

بعد ثلاث سنوات من الاستخدام المكثف للدراجة ولأن قيادة سيارتى أصبحت استثناء نادرا قررت الاستغناء عن سيارتى وبيعها، وهو ما دعم استخدامى أكثر لوسائل النقل العام، وخاصة المترو حتى فى الذهاب للمطار. وبالرغم من عدم انزعاجى من تجربة المترو فى القاهرة الذى يمثل - الآن - القسم الأكبر من تنقلاتى، بل وسعادتى به فى أحيان كثيرة إلا أننى تمنيت دائما أن يكون مصدر كهرباء المترو من الطاقات المتجددة حتى يكون تنقلا مستداما بصورة حقيقية.

• • •

بعد أكثر من عشرين ألف كيلومتر، وربما أكثر، قطعتها بالدراجة خلال تلك السنوات استخدم الدراجة الآن للوصول إلى محطة المترو، وغالبا ما أتنقل مشيا من المحطة الأخرى حتى جامعة القاهرة أو وجهات أخرى فى أنحاء القاهرة، وأنا أمشى فى المتوسط بين عشر دقائق وحتى ثلاثين دقيقة بدون إحساس بتعب أو إجهاد فى مختلف الأحوال الجوية وأستطيع من خلال ذلك أن أصل لجهات عديدة فى القاهرة، وسهل من ذلك كثيرا الخطوط التى تمت إضافتها فى السنين القليلة الماضية لشبكة المترو.

على الرغم من كونى من مستخدمى ومحبى القطارات عبر العديد من العقود إلا أننى وجدت نفسى مضطرا فى السنوات الأخيرة للجوء لوسائل أخرى، وخاصة الميكروباص للسفر إلى أماكن عملى فى شمال الدلتا أو مع طلبتى فى أنحاء مصر المختلفة من رشيد شمالا للقصير وأسوان جنوبا. لم أجد، للأسف، بديلا مناسبا عن طريق القطار إما لأن تردد القطار ضعيف لوجود سكة واحدة كما فى حالة رشيد أو لعدم وجود سكة حديد أصلا كما فى حالة دمياط الجديدة بالرغم من وجودها بجوار أحد أكبر موانئ مصر أو لأن هناك تفرقة بين المصرى والأجنبى كما هى فى حالة أسوان، لأن بعض طلبتى هم من غير المصريين، هذا بالإضافة لسوء حالة الخدمات، وخاصة الحمامات وحالة النظافة العامة حتى فى القطارات المسماة الفاخرة والتى كان لى مع طالباتى تجربة غير سعيدة فيها فى الخريف الماضى.

تساءلت قبل ذلك وما زلت عن أولويات تطوير السكك الحديدية فى مصر، وتحسين خدماتها وتواترها وكهربتها (بطاقة متجددة من محطة بنبان مثلا) والعائد من ذلك على المواطنين والاقتصاد المحلى مقابل الإنفاق الكبير للغاية على القطار السريع.

• • •

طالما ناقشت مع طلابى كيف يتسبب التنقل بالطائرات فى نسبة كبيرة من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى، وأنا من مؤيدى السفر الأرضى. وعندما يعرض علىّ السفر بالطائرة داخل مصر يكون من السهل على رفض الدعوة واستبدال وسيلة السفر. لكننى لم أستطع أن أطبق ذلك فى السفر خارج مصر لأن عملى يتطلب منى أحيانا السفر لأماكن لا أستطيع استبدالها بالسفر بوسائل أخرى.

فكرت بجدية فى رفض دعوة تلقيتها لمكان بعيد للغاية ولكننى فى النهاية، وبعد نقاش مع زملاء قدرت أنه ربما تكون الفائدة المرجوة، تبريرا وإن كان غير تام، لهذا السفر الطويل. كنت سأعرض ما قمت به من تطوير حلول محلية تتعلق بالتغير المناخى فى إحدى الكليات الجامعية كما سأحظى بفرصة للنقاش الثرى وجها لوجه مع زملاء أكاديميين من تخصصات مختلفة منهم الفيلسوف، ومنهم الفنانة، ومنهم من يهتم بالتغير المناخى، ومنهم المتخصصة فى النصوص الإبداعية بالإضافة لرئيسة الجامعة وقبل كل ذلك مع الطلبة والطالبات القادمين من مختلف بقاع الأرض.

كما حظيت بفرصة للتعرف على مكان وطبيعة مختلفة عن تلك التى عرفتها فى أماكن أخرى. وبالرغم من أننى وجدت الفائدة كبيرة إلا أن التفكير والموقف فى ضرورة السفر بالطائرة كما أراه يتطلب منى المزيد من العمل.

يشارك قطاع التنقل فى مصر بنسبة كبيرة من إجمالى الانبعاثات ناهيك عن الغازات الملوثة للهواء والمهددة للصحة العامة، أضف إلى ذلك كمية الوقود المستهلكة. ويمثل تبنينا لطرق أخرى فى التنقل أحد الوسائل الرئيسية للتعامل مع تلك التحديات. كما أنه يمثل بداية ضرورية للتحول لمجتمع مرن قادر على مواجهة الصدمات والتكيف مع التحديات التى نواجهها حاليا، والتى ستزداد فى المستقبل القريب والمتوسط.

• • •

هدفى من عرض خبرتى الشخصية فى التنقل عبر السنوات الخمس الماضية هو نفى الوهم أن هذا التحول للتنقل شبه المستدام قد يتطلب تضحيات كبرى، ولكن عبر تلك السنوات رأيت أن مع تبنيه تأتى العديد من الهبات المحسوسة وغير المحسوسة تتمثل فى إمكانيات متعددة لتحسين جودة الحياة من ناحية الصحة البدنية، والعقلية كما أن التفكير فى أن ما أقوم به يسهم مباشرة فى مساعدة الطبيعة على التعافى هو باعث دائم على الرضا وبعض السعادة.

هناك ولا شك تحديات عديدة لكى يتمكن عدد أكبر من الناس ممارسة تنقل شبه مستدام حاليا، والذى أتمنى أن يكون مستداما تماما فى المستقبل القريب، ولكن بدون أن يحاول عدد أكبر تبنى تلك الممارسات فلن يكون هناك ضغط كاف على المسئولين فى كافة المستويات على عمل ما فى إمكانهم لدعم هذا التحول، والذى هو يصب فى مصلحة الجميع.

أعتقد أن ما تعلمته من تلك التجربة يمكن أن يساعد كثيرين غيرى. فقد أتاحت لى هذه السنوات الخمس أن أفهم أكثر عن تأثير التنقل على صحة الإنسان سواء الجسدية أو العقلية، وخاصة تخفيف الضغوط العصبية المرتبطة بإيقاع حياتنا المتسارع. كما أتاحت لى أيضا تلك السنوات القليلة التأمل فى فكرة الزمن وإيقاعاته التى تتجلى فى الدورات الطبيعية، وأهمية استخدام الوقت المتاح لنا للتمهل فى تحركاتنا، والنظر فيما يحيط بنا واستيعابه.

يدعم هذا الإيقاع فى التنقل - أيضا- التفكير فى قيمة الهواء النظيف، والاستمتاع برؤية مياه النهر والطبيعة، ولأن كل ذلك مشاع بيننا جميعا، والحفاظ عليه مسئوليتنا جميعا يلح على السؤال لماذا لا تكون تلك الموارد الرائعة متاحة للجميع؟ ولماذا يتم تنفيذ مشروعات بطول النهر تجعله بمقابل؟ وماذا سيكون حالنا لو أتيحت تلك الطبيعة الرائعة للجميع فى كل الأوقات بسهولة وأمان؟ وكيف سيكون حال المجتمع وأفراده الذين يتعاملون بتقدير واحترام وبرفق مع الموارد الطبيعية التى تحيط به؟

التعليقات