نتفليكس تصور التاريخ كما يحلو لها - نادين السيد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 5:41 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نتفليكس تصور التاريخ كما يحلو لها

نشر فى : الإثنين 24 أبريل 2023 - 9:25 م | آخر تحديث : الإثنين 24 أبريل 2023 - 9:25 م
أعلنت نتفليكس مؤخرا عن عملها الجديد الذى يؤرخ حياة الملكة الفرعونية كليوباترا، آخر ملوك الأسرة المقدونية، ليثير الإعلان الدعائى للفيلم الوثائقى بلبلة كبيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعى لاختيار ممثلة ذات بشرة سمراء لتجسيد ملكة من أصول مقدونية. ويتضمن الإعلان مقطعا من سيدة تقول: «كانت أمى تقول لى إنها لا تأبه بما يقولون بالمدرسة، فكليوباترا كانت سيدة سمراء أفريقية» ليؤكد صناع العمل أن اختيارهم مقصود ويثير جدلا حول تزييف التاريخ والترويج لمعتقدات المركزية الأفريقية التى تنسب الحضارة المصرية القديمة إلى الأفارقة فقط.
الأمر لا يحتمل الجدل أو اختلاف الآراء، فمن ضمن ملوك وملكات مصر القديمة كلها، كليوباترا الأقل احتمالا أن تحمل أى أصول أفريقية سمراء، وذلك لا يضيف أو ينتقص منها شيئا على الإطلاق. فهى ملكة ذات أصول مقدونية وهى الوحيدة من ملوك عائلتها الأجانب عن الأرض التى تعلمت اللغة المصرية القديمة، وجميع الدلائل التاريخية من تماثيل ورسومات لها وحتى عملات حملت صورتها تثبت أن ملامحها وبشرتها لا تمت بصلة للون وملامح الممثلة المختارة لتجسيدها فى العمل الوثائقى الذى يفترض أن يعكس الواقع التاريخى المثبت. ذلك لا يعنى أن ملكات وملوك مصر كانوا شقرا، فالملكات ذوات الأصول النوبية مثلا، ومن ضمنهم الملكة «تى»، أقرب لسمار البشرة عن الشكل الأوروبى.
فإن كان أصل كليوباترا تحديدا معروفا ومثبتا، فلماذا قرر صناع العمل اختيار ممثلة ذات بشرة سمراء وملامح مختلفة عن كليوباترا تماما لتجسيد دور الملكة الأقرب للأوروبية عن المصرية؟ الإجابة ببساطة هى أن ذلك فرض سيطرة وفرض رأى فقط لأنهم نتفليكس وعندهم رأس المال والخبرة والشعبية الكافية لتزييف التاريخ كما يحلو لهم ودعم الآراء التى تحلو لهم بنفس سياسة «الطفل الرزل» «صاحب الكورة»، الذى له أن يحدد قواعد اللعب ومن يلعب ومن لا يلعب، فهو صاحب الكورة وبدونه نمل جميعا لعدم وجود بديل، فنستحمل «رزالته» وآراءه على مضض ونعصر على أنفسنا ليمونة ونلعب اللعبة وفقا لقواعده هو.
فجأة أصبح أى اعتراض على تلك السياسات التى وضعها «صاحب الكورة الرزل»، وهم كثير، يجعلك رجعيا وعدوا لليبرالية وعنصريا وغير مواكب لقضايا العصر أو كما يقول جيل التيك توك، فأنت غير «woke» كما أنك «politically incorrect». وتلك فى عالم الإنترنت وصمات كافية أن تجعل ذلك الجيل «يلغيك» أو «to get cancelled» كما يقولون: وهو مقاطعتك لأنك شخص رجعى.
فأخذ هنا جماعة الإنترنت الـ «woke» بمحاربة جماعة الإنترنت الرجعيين الذين تجرأوا واعترضوا على تجسيد خاطئ لشخصية تاريخية أو لأنهم لم يدعموا محاولات نتفليكس لتمثيل جميع الأعراق، حتى وإن كان فى سياق تاريخى خاطئ، وأخذ الموضوع سياقا آخر يحمل اتهامات عنصرية بدلا من السخرية من عمل غير مهنى بالمرة.
والاعتراض هنا لا علاقة له بالعنصرية، فأصول كليوباترا لا تضيف أو تنتقص منها وإن اختارت نتفليكس ممثلا أشقر ذا ملامح أوروبية لتشخيص الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كان سيعتبر ذلك أيضا تزييفا للتاريخ وخطأ فادحا فى فيلم وثائقى. وإن تم اختيار رجل ذى بشرة فاتحة لتشخيص الرئيس السابق باراك أوباما ستقوم ثورة ضد المنتج والمخرج وأقاربهم وذويهم واتهامهم بما يسمى بالـ white washing للسينما لمحو أهمية الأفارقة ودورهم فى التاريخ. ولكن فجأة أصبحت المناداة بالدقة التاريخية فعلا مشينا وعنصريا ورجعيا فقط لأن نتفليكس قالت لنا ذلك.
الحل هنا هو وجود «كورة» أخرى، وليس منع «صاحب الكورة»، فالمنع والرقابة أفكار أثبتت فشلها عبر التاريخ. فالتاريخ تاريخنا، والملوك ملوكنا، لذا يجب علينا أن نرتقى بأصول اللعب ونصنع محتوى يصدر تاريخنا الحافل والثرى للعالم كما يحلو لنا نحن. فالتاريخ يصنع على يد من يكتبه، وإن أردنا توثيق حقائقنا وتاريخنا، وجب علينا المنافسة فى صناعة ذلك النوع من المحتوى لنتحكم فى سرد قصصنا وشخصياتنا بدلا من «الدبدبة» فى الأرض والغضب ومقاطعة اللعبة نهائيا.
نادين السيد أستاذ مساعد بقسم الإعلام في الجامعة الأمريكية
التعليقات