العزلة الاجتماعية - صحافة عربية - بوابة الشروق
الجمعة 25 أبريل 2025 11:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

العزلة الاجتماعية

نشر فى : الجمعة 25 أبريل 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 25 أبريل 2025 - 7:15 م

نشرت جريدة الرياض السعودية مقالا للكاتب محمد الحمزة، يوضح فيه كيف أن العزلة الاجتماعية ليست مجرد حالة شعورية، بل لها تداعيات واسعة تتجاوز الفرد لتطال المجتمع بأسره، إذ تعد خطرًا صامتًا يؤثر سلبًا على الصحة النفسية والجسدية والعقلية، كما تهدد البنية الاجتماعية والاقتصادية، لذا يدعو الكاتب إلى التوازن بين التواصل الرقمى والحضور الإنسانى كضرورة لحياة صحية ومتوازنة.. نعرض من المقال ما يلى:

فى عالم يقدر فيه التواصل الفورى والشبكات الاجتماعية الواسعة، يواجه ملايين الأشخاص حول العالم واقعا مغايرا: (العزلة الاجتماعية). وهى انعدام أو نقص التفاعلات الاجتماعية المرضية، سواء على المستوى العائلى أو المجتمعى، وهى كذلك: «غياب التفاعل الاجتماعى الملموس أو ضعف الروابط ذات المعنى»؛ وفقا لـمنظمة الصحة العالمية WHO. بينما ينظر إليها أحيانا كفرصة للتأمل، وتتحول فى أحيان كثيرة إلى سجن خفى يفاقم الاضطرابات النفسية.

العزلة الاجتماعية ظاهرة تختلف عن «الوحدة العاطفية» التى تشير إلى الشعور الذاتى بالفراغ، بينما قد تكون العزلة اختيارية فى بعض الحالات، مثل الرغبة فى الخلوة للتأمل، إلا أنّ استمرارها لفترات طويلة دون رغبة الفرد يحوّلها إلى أزمة صحية صامتة تهدد العقل والجسد والمجتمع ككل.

تظهر الدراسات أن العزلة الاجتماعية تعتبر عامل خطر رئيسا لاضطرابات الصحة العقلية، ففى عام 2020، كشفت دراسة نشرت فى مجلة JAMA Psychiatry أن الأفراد الذين يعانون من عزلة اجتماعية شديدة زادت لديهم احتمالية الإصابة بالاكتئاب بنسبة 26 % مقارنة بمن يتمتعون بعلاقات اجتماعية نشطة. كما أن التفاعل الاجتماعى يحفز إفراز هرمون «الأوكسيتوسين»، الذى يعزز الشعور بالثقة والارتباط، بينما يؤدى غيابه إلى تفاقم القلق واضطرابات المزاج.

علاوة على ذلك، ترتبط العزلة المزمنة بتسارع التدهور المعرفى، خاصة لدى كبار السن. ففى دراسة أجرتها جامعة هارفارد، تبين أن البالغين الذين يعيشون فى عزلة تزيد لديهم احتمالية الإصابة بالخرف بنسبة 50%، بسبب انخفاض تحفيز الدماغ وفقدان المرونة العصبية التى تحافظ على وظائفه.

لا تقتصر تداعيات العزلة على الصحة العقلية فحسب، بل تمتد إلى الجسد. ففى عام 2015، أظهرت مراجعة شملت 70 دراسة أن العزلة الاجتماعية ترفع خطر الوفاة المبكرة بنسبة تقارب تأثير التدخين اليومى (15 سيجارة). السبب يعود إلى أن العزلة تحفز استجابة الجسم للتوتر، مما يؤدى إلى ارتفاع مستويات هرمون الكورتيزول، الذى يضعف المناعة ويزيد الالتهابات المزمنة.

كما أن الأشخاص المعزولين اجتماعيا أكثر عرضة لأمراض القلب والأوعية الدموية، بسبب ارتفاع ضغط الدم وعدم انتظام ضربات القلب. فى المقابل، يقلل التفاعل الاجتماعى من إفراز هرمونات التوتر، مما يعزز صحة القلب والتمثيل الغذائى.

أظهرت دراسات تصوير الدماغ أن العزلة الاجتماعية الممتدة تسبب تغيرات هيكلية فى مناطق الدماغ المرتبطة بالعواطف والتفكير الاجتماعى، مثل القشرة الأمامية الجبهية واللوزة الدماغية. ففى تجربة أجريت على الفئران عام 2020، لوحظ أن العزلة لفترات طويلة أدت إلى تقلص الخلايا العصبية فى هذه المناطق، مما يضعف القدرة على التفاعل الاجتماعى والتعاطف مع الآخرين.

علاوة على ذلك، يقلل العزلة من إنتاج بروتين «BDNF» الذى يدعم نمو الخلايا العصبية الجديدة، مما يعرقل التعلم والذاكرة. هذه التغيرات تشبه تلك التى تنتج عن الإدمان على المخدرات، مما يظهر أن العزلة قد تكون «إدمانا سلبيا» يغذى نفسه.

لا تؤثر العزلة على الأفراد فحسب، بل تشكل عبئا اقتصاديا. فى الولايات المتحدة وحدها، تقدر تكلفة الأمراض المرتبطة بالعزلة الاجتماعية بنحو 6.7 مليارات دولار سنويا، بسبب انخفاض إنتاجية العمل وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية. كما أن المجتمعات التى ترتفع فيها معدلات العزلة تشهد ارتفاعا فى الجريمة وتفكك الروابط الأسرية.

من ناحية أخرى، تلعب التكنولوجيا دورا متناقضا. فبينما تسهّل وسائل التواصل الاجتماعى الاتصال الافتراضى، أشارت دراسة فى الجمعية الأمريكية لعلم النفس عام 2022 إلى أن الاستخدام المفرط لهذه المنصات يعزز العزلة الواقعية، حيث تحل العلاقات السطحية محل التفاعلات العميقة. هنا، تبرز أهمية «الذكاء العاطفى الرقمى»، أى استخدام التكنولوجيا كجسر وليس بديلا عن التواصل المباشر.

مواجهة العزلة الاجتماعية تتطلب جهدا متعدد الأوجه.. على المستوى الفردى، ينصح بممارسة الهوايات الجماعية والتطوع، التى ثبت أنها تقلل الشعور بالعزلة بنسبة 30%. أما على مستوى السياسات، فتظهر تجارب دول مثل اليابان نجاحا فى تخصيص ميزانيات لبناء «مراكز لقاءات مجتمعية» وتشجيع العمل عن قرب بدلا من العمل عن بعد.

أخيرا، تذكّرنا العزلة الاجتماعية أن الصحة ليست مسألة فردية، بل نظاما بيئيا يتشابك فيه الفرد مع مجتمعه. فى عصر السرعة والتكنولوجيا، ربما حان الوقت لإعادة اكتشاف قيمة «الحضور البشرى»، ليس كرفاهية، بل كضرورة حيوية. والعزلة الاجتماعية ليست حتمية، بل مؤشرا لخلل فى التوازن بين الراحة الفردية والتفاعل الاجتماعى. وكما قال الدكتور جون كاسكادى، خبير علم الاجتماع: «العزلة قد تكون ملجأ للتأمل، لكنها تصبح سجنا إذا نسيت أن تمسك بمفتاح العودة إلى العالم».. وفى عصر يغرقنا فى الضوضاء، تذكّر أن العزلة الاختيارية تعيد شحن الروح، لكن العزلة القسرية تذكّرنا بأننا كائنات اجتماعية بجوهرها.

التعليقات