غيوم فوق قرطاج - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غيوم فوق قرطاج

نشر فى : الأحد 26 يونيو 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : الأحد 26 يونيو 2022 - 7:25 م

تتفاقم الأزمة التونسية إلى حدود منذرة بتغييرات دراماتيكية فى المشهد السياسى.
لا الأوضاع الحالية قابلة للاستمرار ولا الأوضاع السابقة مرشحة للعودة.
الأزمة بمشاهدها وتداعياتها قد تأخذ البلد إلى المجهول.
الدستور الذى أقر بقوة الثورة تعطلت شرعيته بالإلغاء والدستور المقترح مطعون عليه قبل الذهاب إلى الاستفتاء فى (25 يوليو) المقبل.
فى الأوضاع القلقة الحالية تتكثف الغيوم فوق قصر قرطاج حيث مقر الحكم ويصعب التكهن بما قد يحدث غدا.
السيناريوهات كلها مفتوحة على المجهول وكمائن الخطر ماثلة فى المكان.
لم يكن الرئيس «قيس سعيد» وجها سياسيا معروفا قبل انتخابه، كان صعوده لموقعه تعبيرا عن الضجر العام من النخبة السياسية الحاكمة وشبهات الفساد التى تلاحقها.
بدت سمعته كـ«رجل نظيف» تلتف حوله مجموعات شابة تنتمى إلى الثورة التونسية كافية لقطاعات واسعة من الرأى العام للرهان عليه دون نظر فى أفكاره وتصوراته لطبيعة نظام الحكم، وقد كانت أقرب إلى «النظام الجماهيرى»، الذى أسسه العقيد «معمر القذافى» فى ليبيا!

حاولت حركة «النهضة» دون جدوى احتواء الرئيس الجديد، قبل أن تعمل على تهميشه فى صناعة القرار الداخلى وتجاوز صلاحياته الدستورية فى الإشراف على السياسة الخارجية والعلاقات الإقليمية.
جرت صدامات سياسية متكررة بين الرئيس المنتخب بالاقتراع المباشر ورئيس الوزراء «هشام المشيشى» المعين من المجلس النيابى، الذى يترأسه ويهيمن عليه «راشد الغنوشى» زعيم حركة «النهضة»!
كان الصدام محتما.
اكتسبت إجراءات (25) يوليو (2021) الاستثنائية قبولا شعبيا واسعا أضفى عليها مشروعيتها أكثر من نسبتها إلى المادة (80) من الدستور التونسى، التى تخول الرئيس فى الظروف الاضطرارية إقالة الحكومة وتجميد البرلمان بما لا يزيد عن عام دون أن يكون من حقه حل السلطة التشريعية والهيمنة على السلطة القضائية.
جرى تأويل المادة الدستورية لمقتضى الصراع على السلطة ولمن تكون الغلبة فى صناعة القرار.
كان لافتا الدعم الكامل، الذى حازه «قيس سعيد» من المؤسسة العسكرية والأمنية على خلفية كراهيتها التاريخية لحركة «النهضة» ذات التوجه القريب من جماعة «الإخوان المسلمين».
السؤال الآن: كيف تتصرف تلك المؤسسة إذا دخلت البلاد فى اضطرابات لا يمكن السيطرة عليها؟!

أرجو أن نلتفت للدور الذى لعبته التظاهرات الغاضبة على الأوضاع الاجتماعية المتردية وما تبدى من قصور حكومى فادح فى مواجهة جائحة «كوفيد 19» فى توفير حاضنة شعبية لإطاحة حركة «النهضة».
قبل عام تبدت فرصة مستجدة لتأسيس توافق وطنى جديد مع القوى الحية، التى لم تنخرط مع «النهضة» فيما هو منسوب إليها من خطايا فادحة فى ممارسة السلطة.
لم يحدث شىء من ذلك وأخذت الأخطاء تتراكم حتى استهلك النظام جانبا كبيرا من مشروعيته الشعبية.
أسوأ ما جرى بعد (25) يوليو أن ما هو استثنائى أصبح اعتياديا، مددت الفترة الاستثنائية من شهر حسب النص الدستورى إلى شهرين إلى سنة كاملة دون إجراء أى حوار وطنى واسع وجدى ودون أية خارطة طريق تصنع توافقا حقيقيا حول الخطوات التى يتوجب اتباعها، كما وعد «سعيد» بنفسه.

توتر المجال العام بأكثر مما كان متوقعا بإجراءات خشنة نالت من الحريات الإعلامية، كما من استقلال القضاء.
لا يمارى أحد تقريبا أن فسادا نال من الهيئة القضائية، صدقيتها وعدالتها، حال دون المضى قدما فى البت بقضايا اغتيالات تتهم «النهضة» بالتورط فيها وقضايا أخرى تنطوى على شبهات فساد.
التطهير ضرورى، هذا مما لا شك فيه، الاعتراض الأساسى أن يجرى ذلك بمرسوم من رأس السلطة التنفيذية، دون ملف تأديبى أو جزائى، أو أن يكون إعفاء عشرات القضاة عشوائيا بلا قواعد وأصول متبعة.
دخل أكثر من (90%) من قضاة تونس فى إضراب عام تمدد حتى الآن لأسبوع ثالث، وهو وضع لا يحتمله بلد منهك اجتماعيا ومأزوم سياسيا.
لم تكن تونس فى حاجة إلى توتير إضافى للاحتجاجات السياسية التى تنمو بالتدريج على خلفية الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء على دستور جديد اقترحته «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل الجمهورية الجديدة»!!
الأخطر من ذلك كله أن شبح الانفجار الاجتماعى غير مستبعد على خلفية تردى الأوضاع الاجتماعية واتساع دائرة الفقر ومخاوف الاستجابة للإصلاحات القاسية التى يطالب بها صندوق النقد الدولى.
كان لافتا أن الاضراب العام، الذى دعا إليه الاتحاد العام للشغل، نجح بصورة لا يمكن إنكارها، أو تجاهل رسائلها.
تقليديا يعتبر اتحاد الشغل رمانة الميزان فى حسم صراعات السلطة.

دعم الإجراءات الاستثنائية قبل أن يغير بوصلته بأثر السياسات المتبعة إلى المعارضة الصريحة.
هذا إنذار لا يمكن تجاهل رسائله إلى المستقبل المنظور.
فى كل تلك التفاعلات الصاخبة مالت «النهضة» إلى شىء من الانزواء، باستثناء مداخلات مصورة لـ«الغنوشى» وبيانات متباعدة باسمها.
تشارك بقوة فى المشهد الاحتجاجى دون أن تعلن عن حضورها خشية خسارة معركتها مقدما.
إنه إقرار صريح بقدر تراجع شعبيتها وأوزانها وكراهية أدوارها فى السلطة.

إذا ما عادت «النهضة» يوما إلى ما كان عليه من قوة وشعبية فإن الفضل ينسب فى هذه الحالة إلى الأخطاء الفادحة التى يرتكبها الرئيس التونسى.
هناك ميل سياسى عام لمقاطعة الاستفتاء على الدستور المقترح ونزع أية شرعية عنه.
لا أحد اطلع حتى الآن على مسودته، كلها تسريبات وبعض ما هو مسرب مزعج بالفعل مثل إلغاء الحق فى الإضراب على ما حذر اتحاد الشغل.
هناك مخاوف حقيقية من أى انقضاض محتمل على الحريات العامة، الإنجاز الرئيسى شبه الوحيد للثورة التونسية، والعودة بصورة أو أخرى إلى ما قبلها.
حسب تصريح رئيس الهيئة المكلفة بوضع الدستور فإن نظام الحكم لن يكون رئاسيا ولا برلمانيا، وأنه سوف يكون تونسيا محضا!
هذا الكلام لا يؤسس لأوضاع مستقرة ولا لنظام حكم يطلب الثقة العامة.

الدستور موضوع توافق واسع، وهو ما يغيب بفداحة فى الحالة التونسية المستجدة.
من هنا إلى (25) يوليو سوف تشهد تونس فورانا سياسيا واجتماعيا دون أن يكون أحد مطمئنا على مستقبلها.