اتفقت استطلاعات الرأى على أن موجة التشديد النقدى التى قادها الفيدرالى الأمريكى منذ بداية الحرب الروسية ــ الأوكرانية وحتى كتابة هذه السطور، فى طريقها إلى الارتداد. مؤشرات الاقتصاد الكلى عززت من تلك التوقعات، بيانات التوظّف والنمو التى كانت دليلا على الهبوط السلس الآمن للسياسة النقدية الأمريكية المتشددة طوال ما يقترب من ثلاثين شهرا، لم تعد كذلك، بل أصبحت التداعيات السلبية لتلك السياسة أكبر من أن تمحوها أهداف كبح التضخم، والعودة إلى معدلات 2% المستهدفة.
فى كلمته بالمؤتمر الاقتصادى السنوى لبنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى فى جاكسون هول، أكد «جيروم باول» رئيس مجلس الاحتياطى على أن الوقت قد حان لتغيير السياسة النقدية. هذه إشارة جادة إلى أن استمرار أسعار الفائدة عند مستوياتها المرتفعة الحالية لم يعد ضررها على الاقتصاد محتملا، علما بأن مستهدفات السياسة النقدية قد تحققت بشكل مرض، بعدما نجح الفيدرالى فى السيطرة على موجة تضخمية عنيفة، جاءت إرهاصاتها كنتيجة لانتعاش الطلب العالمى بعد فترة إغلاق وركود صنعتها جائحة كوفيد ــ 19.
• • •
على الرغم من أن مضمون كلمة «باول» التفصيلية لم يكن جديدا أو غير متوقع، فإن العديد من الإشارات الإيجابية تم استخلاصها من بين السطور، وتفاعلت أسواق المال معها بقوة يوم الجمعة الماضى، علما بأن تلك الأسواق هى الأسرع استجابة وخصما للأنباء. وقد قفزت مؤشرات الأسهم الأمريكية الثلاثة الرئيسة بشكل ملحوظ، حيث ارتفع مؤشر داو جونز الصناعى بمقدار 462,3 نقطة أو 1,14%، وزاد مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بمقدار 63,97 نقطة أو 1,15%، وأضاف مؤشر ناسداك المركب 258,44 نقطة بنسبة ارتفاع بلغت 1,47%.
على المستوى القطاعى، فقد أنهت جميع القطاعات الرئيسة الإحدى عشر فى مؤشر ستاندرد آند بورز 500 جلسة تداول يوم الجمعة فى منطقة إيجابية، حيث حققت أسهم القطاع العقارى أكبر مكاسب بنسبة ارتفاع 2%. وتفوقت أسهم الشركات الصغيرة، والبنوك الإقليمية على بقية الأسهم، حيث سجلت ارتفاعا بنسبة 3,2% و4,9% على التوالى. وعن قطاع البيع بالتجزئة، يعكس ارتفاع سهم شركة روس ستورز بنسبة 1,8% تفاؤلا بأداء القطاع كله، خاصة بعدما رفعت الشركة توقعات أرباحها للعام المالى 2024 على خلفية كلمة «باول».
وقدمت أسهم الشركات العملاقة إنفيديا، وآبل، وتيسلا، أكبر أداء داعم لقفزات الأسعار، كما تفوق أداء شركة وورك داى على توقعات الإيرادات الفصلية، وأعلنت عن خطة إعادة شراء أسهمها بقيمة مليار دولار، مما أدى إلى ارتفاع أسهم شركة برمجيات الموارد البشرية بنسبة 12,5%، وهى أكبر مكاسب فى مؤشر ناسداك.
أما أسعار الذهب فقد ارتفعت فى يوم واحد بأكثر من 1% مع تراجع الدولار وعوائد سندات الخزانة. ومن الطبيعى كما أكّدنا مرارا أن تكون استجابة الذهب على هذا النحو من الارتفاع، كنتيجة مباشرة لأى انخفاض متوقع فى قيمة الدولار، حيث أن الذهب مقوّم فى الأسواق العالمية بالدولار الأمريكى، وانخفاض أسعار الفائدة على الدولار تؤدى إلى تراجع قيمة الدولار أمام العملات الرئيسة، ومن ثم يتعيّن على مشترى الذهب أن يدفع مزيدا من الدولارات لشراء نفس الوزن من السبائك، وهذا يعنى ارتفاع أسعار المعدن الأصفر.
• • •
من الواضح من كلمة «باول» ــ موضوع المقال ــ أنها لم تكن حاسمة فى شأن حجم التحرّك المتوقع فى أسعار الفائدة بداية من سبتمبر القادم، ولا فى شأن مستويات معدلات الفائدة المستهدفة بنهاية موجة التيسير، التى من المنتظر أن يبدأها الفيدرالى قريبا. لكن «باول» أشار إلى أن هذه الأمور سوف تحددها البيانات تباعا، فى إشارة إلى بيانات النمو والتوظّف بالداخل الأمريكى من جهة، وإلى بيانات التضخّم من جهة أخرى. الاحتياطى الفيدرالى فى هذا السياق، عينه على تراجع أو استقرار معدلات التضخم، وعلى تحسّن مؤشرات النمو والوظائف، تلك التى كانت أحدث بياناتها سلبية ومحبطة.
أما عن مؤشرات الاقتصاد العالمى ذات التباطؤ المحتمل فهى أمر ثانوى فى نظر الفيدرالى، ولا تؤثر فى قراره إلا بالقدر الذى تنعكس فيه تلك المؤشرات على الاقتصاد الأمريكى ذاته. من هنا تكمن خطورة الوضع الاقتصادى فى الصين التى كان يعوّل عليها كمحرك أساس للنمو العالمى، بينما تتعثّر اليوم فى أزمتها الاقتصادية العقارية، وتعيد تنظيم بيتها من الداخل. العالم كله اليوم صار أكثر حساسية لقرارات السياسة النقدية الأمريكية من أى وقت مضى، الديون المقوّمة بالدولار تجعل ارتفاع الفائدة على العملة الخضراء شديدة الأهمية بالنسبة للمدينين، ترفع تكلفة التمويل بكل أشكاله وبدائله، تنعكس على تكلفة الاستثمار ومن ثم الناتج والنمو فى هذا الناتج.
البنوك المركزية حول العالم ظلت لاهثة خلف الفائدة على الدولار، وعينها مثبتة على قرارات وتلميحات وتصريحات «باول» طيلة ما يزيد على عامين، كونها تحدد قيمة عملاتها الوطنية وأسعار الفائدة عليها فى ضوء ما ينتج عن قرار الفيدرالى الأمريكى. سواء أكانت تلك العملات مربوطة بالدولار أو مثبتة به أو مرنة.. بغض النظر عن طبيعة نظام سعر الصرف المتّبع، فتأثير الدولار الأمريكى ينبع من دوره فى التجارة وإصدارات الدين والاحتياطى بالبنوك المركزية.. وهو دور بدا مهتزا نسبيا خلال الفترة الأخيرة، كما عكسه مؤشر قوة الدولار، تحت تأثير الدولرة العكسية، وتوقعات تراجع الفائدة على الدولار.
• • •
مصر بدورها تتطلّع إلى تراجع الفائدة على الدولار، حتى يتمكّن المركزى المصرى من التعامل مع روافد أقل للتضخم. فارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه المصرى هو أحد تلك الروافد، يتجلّى تأثيره من خلال ارتفاع تكلفة استيراد السلع نهائية الصنع والوسيطة ومدخلات الإنتاج، بما يرفع من تكلفة أسعار السلع بشكل عام. بالتأكيد هناك روافد وأسباب أخرى لتضخم الأسعار فى مصر، أهمها وأكثرها هيكلية هو تراجع الإنتاجية المحلية، فضلا عن أسباب عارضة منها زيادة إصدار البنكنوت، والتضخم الحلزونى spiral inflation الناتج عن الرفع المتكرر فى الأجور الاسمية لملاحقة التضخم، بما يرتد فى صورة زيادة جديدة فى الأسعار بشكل دائرى لا ينتهى.. ناهيك عن عوامل جانب الطلب المتزايد، والذى يؤثر سلبا على معدلات التضخم، وهذا يتضمّن فى طياته الطلب الناشئ عن زيادة عدد اللاجئين والمقيمين الأجانب فى مصر.
انحسار التضخم والجفاف التدريجى لبعض روافده يمكّن السياسة النقدية فى مصر من التوقّف عن التشديد النقدى تدريجيا، بما يسمح بخفض أسعار الفائدة إلى مستويات مشجّعة على الاقتراض بغرض الاستثمار، وهو الداعم المفضّل للنمو. كما أن الداعم الأكثر شيوعا للنمو الاقتصادى فى مصر -وهو الاستهلاك الخاص ــ تتهدده معدلات التضخم المرتفعة بالفعل.
مرونة وحساسية الأسواق للإشارات الصادرة عن الفيدرالى الأمريكى تختلف تماما عن تلك التى يمكن أن نتوقعها من تصريحات محافظ المركزى المصرى، هذا مفهوم بالنسبة لعمق وتأثير الاقتصاد الأمريكى الذى لا يقارن بأى اقتصاد لدولة نامية مثل مصر. لكن تظل الإشارات التى يطلقها متخذ قرارات السياسة النقدية فى مصر مؤثرة على حركة الأسواق المحلية، من خلال تأثيرها على تكلفة التمويل والاستثمار والتضخّم، حتى وإن كانت السياسة المالية تلعب دورا أهم فى هذه المرحلة، وتفرض قدرا من الهيمنة على السياسة النقدية. هنا وجب أن نثمّن الانضباط الذى يتحرّاه محافظ البنك المركزى الحالى فى تصريحاته.