ونس الميدان - أميمة كمال - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 4:05 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ونس الميدان

نشر فى : الإثنين 28 نوفمبر 2011 - 9:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 28 نوفمبر 2011 - 9:00 ص

عندما لمحته أمس من بعيد يضرب الأرض بقوة وهو يصفق، بنفس نغمة دقة رجليه على الأسفلت، ويهتف بأعلى صوته «قول يا محمد قول يا مينا سما واحدة بتغطينا»، تسرب بداخلى يقين بالانتصار ثانيا.

 

 

سيد عبدالمغنى صاحب مخبز ميت غمر الذى أتى فى 25 يناير وقابلته فى ميدان التحرير وقتها، عندما كان يهتف «يا جمال قول لبابا سيب شوية للغلابة، وارحل انت والعصابة»، ويلحقها دون أن يلتقط نفسه «شدى حيلك يا بهية الثورة دى ثورة شبابية»، مازال عبدالمغنى متحمسا مثلما كان فى يناير. فبالرغم من سنواته الخمسين إلا أنه لم يخفت صوته، ولم يقل وقع دقات قدمه على الأرض، بل زادت وكأنه يشق بها الأرض من شدة الغضب.

 

 

وعندما استوقفته لأتبين منه لماذا أتى هذه المرة؟ وهل مازال أصحاب المخابز يسرقون الدقيق فى بلدته، ومازالت الناس تقف فى الطوابير بالساعات دون أن تحصل على نصيبها من العيش المدعم. لم يعطنى الفرصة وقال إن كل الأحوال كما كانت لم يتغير منها شىء.

 

 

 الحال هو الحال، والسرقة عينى عينك، ولا أحد يتحرك وكأنه لم يكن هناك ثورة. أعطانى عبدالمغنى الثقة فى أننا ليس أمامنا إلا أن ننتصر فى التحرير. فقد تركنى وهو يقول ما دامت دمانا سالت سوا سننجح.

 

 

ياه.. ما أجمل أن تشعر بالونس مع أناس لا تعرفهم ولا تربطك بهم أى صلة. ولكن تأتى كل يوم للميدان وتبحث عنهم وسط الآلاف من البشر لعلك تجدهم فتبادلهم لقمة عيش، أو زجاجة مياه، أو قطعة بطاطا ساخنة، أو تتقاسم معهم نصف كوز ذرة مشوى. وتتمنى ألا تنتهى الأيام حتى تظل تراهم. كنت أظن أننى الوحيدة التى صادفت زميل ميدان قديم مرة أخرى بعد مرور عشرة أشهر.

 

ولكن أيضا جازى أبوفراج القادم من شمال سيناء هو الآخر تقابل مع رفقاء النوم على الرصيف فى صقيع يناير، قابلهم مرة أخرى فى نوفمبر. فالمصادفة جمعت بين (أبوفراج) وبين (عيد ربيع) العامل باليومية الذى لم يتمالك نفسه عندما رأى مشهد الشهيد الذى قتله الأمن، وألقى به واحد من الجنود فى الزبالة فى ميدان التحرير. لم يتمالك أعصابه، ورمى بنفسه فى أول قطار قادم من أسيوط للقاهرة. وهو ذاته القطار الذى حمله فى الثورة الأولى فى يناير.

 

 

مشهد شهيد الزبالة جمع بين أبوفراج وربيع مرة أخرى. ولعل كل واحد منهما وهو يودع الآخر فى فبراير الماضى ويتبادلان التليفونات لم يكن يتصور أنه سيرى زميل الثورة مرة أخرى فى يوم من الأيام. فما بالك وقد جمعتهما ثانية بطانية واحدة، وقضية واحدة فى أقل من سنة. ولذلك لم أتعجب عندما كان أبوفراج يقسم لى بأنه يعرف تقريبا كل الوجوه فى الميدان، بل ويتذكر أسماء بعض من أصحابها حتى الآن. ويقول بمنتهى الصدق والله العظيم عندما انفض الميدان بعد 11 فبراير شعرت وكأننى أغادر بيتى. وبدأ وهو يحادثنى يرتب موقعا له على رصيف مجلس الوزراء تحت لافتة كتب صاحبها «لن يدخل مجلس الوزراء فل من الفلول». وكأنه يريد أن يعلن لى لماذا هو يبيت أمام مقر مجلس الوزراء.

 

 

ياه.. على الونس عندما تجد أم شهيد ترتدى السواد وهى تسير داخل مسيرة تلف الميدان وهى تردد أغنية «يا بلادى يا بلادى» لرامى جمال، وعندما يعلو صوت المغنى مرددا «فى جسمى نار ورصاص وحديد» تنفجر فى البكاء. ولكنها فجأة تلتفت بجوارها إلى شاب فى العشرين من عمره لا تعرفه، يعبر أمامها وهو يضع ضماده على إحدى عينيه، فلا تكاد أن تراه حتى تقبل جبهته، دون أن تنطق بكلمة حتى ينفجر الشاب فى البكاء. فتحضنه ويبكيان معا. ويغنيان مع رفقاء المسيرة بعد أن يكون كل واحد منهم قد رفع يديه ممسكا بيد زميله عاليا ويستكملون أغنيتهم «علمك فى إيدى واسمى شهيد».

ياه.. على الونس عندما يفاجئك وأنت تجرى بعيدا عن الميدان هربا من الغازات السامة التى أطلقها رجال الداخلية، باحثا عن نسمة هواء تحميك من ضيق النفس، فتجد بجوارك شابا يحمل بخاخة، ويبدأ دون استئذان فى الصراخ فى وجهك افتح عينك ويطلق فى مواجهتك ذلك السائل الأبيض المضاد لدخان الداخلية.

 

 وعندما تبدأ فى استعادة القدرة على التنفس مرة أخرى، وتنظر حولك فتجد بجوارك صفا من السيدات والرجال. وقد تحولت وجوههم إلى ما يشبه البلياتشو. وما أن تدرك أنك أصبحت أنت أيضا من فريق البلياتشو حتى تبتسم وحدك. فيدرك الجميع سر ابتسامتك، فتنفجرون فى الضحك معا.

ياه.. على الونس عندما تجد شابا محمولا على أعناق شاب آخر نحيف جدا لا يعرفه، وهو يكاد أن يسقط من طوله من ألم كتفه، ومع ذلك يتحامل، لأن صاحب الهتاف يملك سحرا خاصا يجعله يستجيب فوريا لكل من يطلب منه هتافا، لذلك فهو يعتبر أن دوره أن يتحمل مهمة حمله على كتفه. فما أن يطلب أحدهم هتافا ضد الداخلية فتجد الشاب الهتيف فى لحظة منطلقا «ابعت هات مليون قناصة. لسه فى جسمى مكان لرصاصة». وعندما يطالبه آخر بهتاف ضد العسكرى لا يلتفت إليه وتظن أنه لم يسمعه ثم سرعان ما يصرخ «العسكرى لازم يمشى. دى بلدنا ومش حنمشى». وقبل أن يطلب منه أحد هتافا لأم الشهيد يقول «يا قاتل لم فلوسك. أم الشهيد غنية».

 

 

وعندما ألح عليه أحدهم عايزين حاجة لحزب الكنبة سارع ليقول «أوعى المجلس يلسعك. خلى الكنبة تنفعك». وعندما هتف بصوت مبحوح «عايزين مجلس من التحرير. مجلس فيه واحد مناضل، ومعاهم فقير» انهمرت دموع المتظاهرين وبللت وجوههم، وبدأ التصفيق يعلو ويعلو، وكأنهم شعروا فجأة بأنهم هم الذين يشكلون حكومة الثورة. وعندما يملأ العرق جبهة الشاب الهتيف، وينخلع كتف زميله الذى يحمله يجرى واحد بمنديل يجفف للهتيف عرقه، وآخر يدعك لحامل الهتيف كتفه. أما دموع المتظاهرين فلا يسعى أحد أن يمسحها.

ولكن أقسى حالات الونس عندما تقف صامتا فى شارع قصر العينى ليلا تحمل شمعة، ويجاورك آخرون يفعلون مثلك حول بقايا بقع دم الشاب أحمد سرور الذى قتلته سيارة أمن مركزى أمام مجلس الوزراء أمس الأول. تقف صامتا مترحما على روحه دون أن تتبادل حديثا مع أحد. ولكن عندما تغمض عينك، يأتيك صوت يناديك. وكأن الشاب الذى لم تسمع صوته فى حياتك، ولم تره أبدا وتقف ملاصقا لدمه على الأرض يحادثك، ويستحلفك ألا تنسى حقه.

ياه ما أقسى الونس.

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات