رؤساء مصر واختلافاتهم.. أثر سياق تولي السلطة والأوضاع الإقليمية والدولية - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رؤساء مصر واختلافاتهم.. أثر سياق تولي السلطة والأوضاع الإقليمية والدولية

نشر فى : الأحد 29 يناير 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 29 يناير 2023 - 8:50 م
تناول مقال سابق تفسير الاختلافات بين السياسات التي اتبعها أربع من رؤساء مصر الذين أحدثوا تحولات هامة في أوضاعها الداخلية وعلاقاتها مع دول العالم القريبة والبعيدة، وذلك علي الرغم من أنهم خرجوا جميعا من بين ضباط الجيش، وأرجع هذا المقال هذه الاختلافات إلي نوع الخبرة التي اكتسبوها قبل تولي سلطة الحكم، ومواقعهم في القوات المسلحة.
ينتقل هذا المقال ليقترح جملة من العوامل الأخرى التي تفسر هذه الاختلافات، وفي مقدمتها أثر السياق الذي وصل فيه هؤلاء الرؤساء إلي السلطة، والتجربة التي مروا بها بعد توليهم لها، وخصوصا علاقاتهم برؤساء الدول الأخرى، وعلاقات القوي الإقليمية والدولية التي تعاملوا معها.

لحظة ميلاد الجمهوريات الأربع

كما يولد البشر وفي أجسادهم الوليدة جينات تؤثر علي مسار حياتهم، بيولوجيا علي الأقل، تولد نظم الحكم في سياق يترك بصماته عليها لفترة طويلة وربما حتي انقضاء أجلها. وذلك واضح في حالة جمهورياتنا الأربع. وصل ضباط يوليو إلي السلطة في وقت كان نظام الحكم شبه الليبرالي الذي ساد البلاد منذ صدور دستور ١٩٢٣ يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكانت الضربة القاضية له هي حريق القاهرة في 26 يناير 1952، والذي وجد فيه الملك فاروق الفرصة للتخلص من حكومة الوفد التي كانت قد انُتخبت قبل ذلك بعامين، وتولت السلطة في البلاد أربع من حكومات أحزاب الأقلية دون أن تكون هناك أي بادرة لعودة حكم الوفد بعد انتخابات جديدة، ولذلك كان قرار أغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة في اجتماعهم التاريخي في 27 يوليو 1952 بعد خروج الملك هو استمرار حكم الجيش وعدم العودة للأحزاب القديمة.
وجاء أنور السادات لمنصب الرئاسة في سبتمبر 1970 بعد أن شكلت هزيمة يونيو 1967 ضربة موجعة لشرعية نظام يوليو، وبعد أن طُرحت فكرة الإتيان بخلف لعبد الناصر يكون مقبولا للولايات المتحدة لكي يسهل تسوية آثار الهزيمة باستعادة مصر لشبه جزيرة سيناء التي احتلتها القوات الإسرائيلية، وفتح اغتيال الرئيس السادات علي يد ضابط وجنود ينتمون إلي تنظيم إسلامي مسلح الباب لتولي حسني مبارك الرئاسة بعد انتخابات كان فيها المرشح الوحيد. وسبقت ثورة يناير 2011 وما أعقبها من فترة مضطربة تداول فيها السلطة كل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ثم الدكتور محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين وانقسمت فيها البلاد بين أنصار الإخوان المسلمين وخصومهم، وصعود الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنصب الرئيس.

لم يكن محتملا أن يعيد الضباط الأحرار نظام الحكم الذي ثاروا عليه بعد أن تولوا السلطة وكان قد دخل في موت إكلينيكي بعد حريق القاهرة. ولذلك فعلي الرغم من تعدد التنظيمات التي تعاقبت علي مصر منذ سنة 1953 وحتي سنة 1970، إلا أن كلا منها كان هو التنظيم الوحيد المسموح له نظريا بالنشاط السياسي، وحتي مع تشكك عبد الناصر في سنواته الأخيرة في مدي فعالية هذا التنظيم الواحد إلا أنه لم يبادر بالسماح بتعدد الأحزاب حتي لحظة رحيله عن عالمنا. ووجد السادات الظروف مهيأة والرأي العام مستعدا لما أسماه بثورة التصحيح بعد أن رحل جمال عبد الناصر تاركا قسما عزيزا من البلاد تحت احتلال أجنبي، وميز حسني مبارك بين الإسلاميين الذين يرفعون السلاح والإسلاميين الآخرين القانعين كما تصور بأن يشاركوا في عملية سياسية سلمية تحت مراقبة أجهزة الدولة، ووجد المشير عبد الفتاح السيسي قسما كبيرا من الرأي العام مرحبا بأن يترك له كل زمام السلطة بلا حساب طالما أنه يضمن عدم عودة الإخوان المسلمين للحكم.

هل يتعلم الرؤساء خلال ممارستهم السلطة

ولكن هل تحكم ظروف النشأة والوضع السابق في القوات المسلحة سياسات هؤلاء الرؤساء بعد وصولهم للسلطة؟. سوف يكون من قبيل التعسف القول أنهم لا يتعلمون من تجربة الحكم هذه، إلا أن السمات التي طبعت ممارساتهم الأولي تظل ثابتة كعناصر بنيوية في نظام حكمهم، ولذلك فعلي الرغم من أنه كانت هناك تحولات في السياسات الاقتصادية والعلاقات الخارجية لكل هؤلاء الرؤساء إلا أن الدرس الذي خلصوا به عند لحظة ميلاد نظامهم بقي معهم حتي أيامهم الأخيرة، ومن ثم لم يكن هناك تغير جوهري في أسلوب الحكم الذي مارسه كل منهم، فظل كل منهم هو المركز الرئيس لصنع القرار دون مشاركة فعالة من جانب أي مؤسسة رسمية أو مجتمعية، إلا إذا كان هذا التغير وليد ضغوط خارجية لا يد له في مقاومتها أو تضطره للتكيف معها، مثلما كان قبول التوجه إلي الإصلاح الاقتصادي الذي تدعو إليه المؤسسات المالية الدولية وتشجع عليه الدول الرأسمالية المتقدمة تحت قيادة الولايات المتحدة، وهو ما جري في تسعينيات القرن الماضي في ظل الرئيس حسني مبارك.
ومع ذلك يبدو أن العلاقات الوثيقة مع بعض رؤساء الحكومات والدول كانت مصدر إلهام لبعض رؤسائنا أو علي الأقل مصدر تشجيع وتأييد لبعض سياساتهم. نعرف من كتابات الأستاذ محمد حسنين هيكل أن الرئيس جمال عبد الناصر ربطته علاقات صداقة بكل من جواهر لال نهرو أول رئيس لوزراء الهند بعد استقلالها وجوزيب بروز تيتو رئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية قبل تفككها بعد وفاته في سنة 1989 في إطار سقوط النظم الاشتراكية في وسط وشرق أوروبا. أدار عبد الناصر مع الأول حوارا طويلا في لقائهما الأول في سنة 1954 عن تجربة التخطيط الاقتصادي في الهند، وكان الاتحاد الاشتراكي العربي بتنظيمه الطليعي نسخة مكررة من التحالف الاشتراكي وعصبة الشيوعيين في يوغوسلافيا. وقد تعددت لقاءات عبد الناصر بهذين الزعيمين اللذين أسس معهما حركة عدم الانحياز، وكان يقضي عطلات صيفية في جزيرة بريوني في ضيافة صديقه تيتو.
كما كان عبد الناصر يثق برئيس وزراء الصين الشعبية شو إين لاي الذي التقي به في مؤتمر باندونج في أبريل 1955 وهو الذي مهد لصفقة السلاح مع الاتحاد السوفيتي، وزار مصر زيارة طويلة في ديسمبر 1963. وهكذا فقد كان لهذه الصداقات أثرها في تحول مصر إلي الأخذ بالتخطيط الاقتصادي وبتوسع دور الدولة في الاقتصاد. وفي إقامة تنظيم سياسي واحد وكذلك وفي اتباع سياسة خارجية تقوم علي عدم الانحياز لأي من الكتلتين.
وفي حالة الرئيس أنور السادات فقد ربطته علاقات صداقة مع مستشار النمسا برونو كرايسكي (1970-1983)، وكذلك مع كل من نيكولاي شاوشيسكو رئيس رومانيا حتي سنة 1989 وشاه إيران قبل الإطاحة به في ١٩٧٩ والملك الحسن الثاني ملك المغرب حتي وفاته في يوليو ١٩٩٩، وكان السادات يحب قضاء عطلات في منتجعات جبلية في النمسا، وكانوا جميعا من أصحاب العلاقة الوثيقة، علنا أو سرا مع إسرائيل، ولاشك أنهم كانوا موضع ثقة الرئيس السادات، وقد عرفوا مقدما بعزمه علي زيارة إسرائيل في نوفمبر 1977، ودارت اللقاءات التمهيدية لهذه الزيارة في دولة المغرب وبحضور قيادات مخابراتية مصرية أعدت لها مع موشي ديان وزير دفاع إسرائيل الأسبق. ولا نعرف كثيرا عن صداقات الرئيس حسني مبارك مع قيادات أجنبية باستثناء روابط المودة مع بعض حكام الخليج وخصوصا الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات، وكانت علاقته طيبة بالرئيس الأمريكي جورج بوش الأب الذي أسقط ديون مصر العسكرية وساهم في تخفيض ديون مصر مع الدول الغربية بعد مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية. واحتفظ بعلاقة طيبة مع الرئيس بيل كلينتون ولكن ساءت علاقته بكل الرؤساء الأمريكيين الذين خلفوه وخصوصا كلا من جورج بوش الابن وباراك أوباما. كما ربطته علاقة صداقة مع الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران علي الرغم من الاختلاف الكبير في شخصية كل منها عن الآخر، وحرص الرئيس مبارك علي زيارة ميتران في أيامه الأخيرة قبل وفاته مريضا في يناير ١٩٩٦، وكانت رئاسته الثانية قد انتهت عاما قبلها. وعلى قلة ما نعرف عن صداقات الرئيس السيسي مع قيادات الدول الأخرى إلا أنه من الملاحظ تكرار لقاءاته خصوصا بالشيخ محمد بن زايد رئيس الإمارات والملك عبدالله ملك الأردن، واعتزازه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفتور علاقته بالرئيس جو بايدن.
لاشك أن علاقات رؤساء مصر برؤساء وقادة دول أخري تعكس أيضا تقاربهم في وجهات نظر لقضايا سياسية واقتصادية، ورغبتهم في الاستفادة من هذه العلاقات في دعم سياساتهم، وتمكينهم من التغلب علي بعض التحديات التي تواجههم. ولاشك أن عبد الناصر تعلم من نهرو وتيتو ومن شوين لاي، واستفاد السادات من علاقاته في الإعداد لزيارته لإسرائيل، وحصل مبارك علي مساعدات مهمة من دولة الإمارات، وسعي لجعل الحكومات الغربية خصوصا الإدارة الأمريكية والحكومة الفرنسية لتخفيف الشروط التي كان صندوق النقد الدولي يطلبها من مصر، وكان لا يحمل ودا كبيرا للصندوق في العقد الأول من حكمه. وساءت علاقته بالرئيسين الأمريكيين جورج بوش الأب وباراك أوباما بسبب مطالباتهما له بإدخال إصلاحات سياسية لم يكن يحبذها كثيرا، وأخيرا فكثيرا ما أشاد الرئيس عبد الفتاح السيسي بدول الخليج والإمارات علي وجه الخصوص وتلقت مصر منها في عهده معونات حيوية بينما ثار الخلاف بينه والرؤساء المنتمين للحزب الديمقراطي حول قضايا حقوق الإنسان.

أثر السياق الدولي والإقليمي

أدار كل من هؤلاء الرؤساء حكم مصر في ظل سياق دولي وإقليمي حدد مساحة الحرية التي يتمتعون بها في صنع سياساتهم وفي تنفيذها، ولاشك أن أوسعهم حظا كان الرئيس جمال عبد الناصر الذي صعد نفوذه في حكم مصر في ظل نظام دولي اتسم بالحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي، واللذين تنافسا علي كسب الأنصار في الدول حديثة الاستقلال الموصوفة بدول العالم الثالث، وهو ما منح هذه الدول فرصة أن تختار المعسكر الذي يحقق مطالب قادتها عندما يصعب عليهم نيل ذلك من المعسكر الآخر، وهكذا توجه عبد الناصر للاتحاد السوفيتي عندما رفضت الدول الغربية مد مصر بالسلاح لمواجهة اعتداءات إسرائيلية أو مساعدتها في بناء السد العالي. كما كانت مصر هي أقوي دولة في الوطن العربي ورائدة النهضة فيه، ومثل الشعوب العربية في السعي للاستقلال، ولذلك انعقدت لها الزعامة فيه حتي ولو نافستها بدون نجاح حكومات أخري في السعودية أو العراق علي عهد عبد الحكيم قاسم، وتصادف صعود السادات مع بداية الأفول للمعسكر الاشتراكي وشهد تراكم الثروات في يد حكومات الخليج مع ارتفاع أسعار النفط منذ سنة ١٩٧٣، وهي اتجاهات في النظامين الدولي والإقليمي تعززت منذ التسعينيات، ولذلك ضاقت مساحة الحركة علي الصعيدين الدولي والإقليمي، فتحولت مصر إلي ما سمي بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة التي قدمت لها معونات عسكرية واقتصادية تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات، ومع تعثر التنمية الاقتصادية في مصر نجحت دول الخليج خصوصا في أن تنازعها امتلاك النفوذ في العالم العربي وخارجه.
ومع ذلك لا يمكن أن نلوم الأوضاع الدولية والإقليمية علي ما آل إليه حال مصر، فقدرتنا علي التعامل الناجح معها مثلما تفعل دول في إقليمنا مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وقطر والدول غير العربية مثل تركيا وإيران وإسرائيل هي نتاج الأوضاع الداخلية فيها الاقتصادية والسياسية معا. ونأمل أن تنجح قيادات الدولة في مصر علي أن تجعل من أوضاعنا الداخلية عنصر قوة وتمكين لها بدلا من أن تصبح مصدر انكشاف وعجز في سياساتها الخارجية والداخلية علي السواء.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات