النمسا.. ما هو أعمق من «دبلوماسية الكشرى»! - خالد أبو بكر - بوابة الشروق
الجمعة 4 يوليه 2025 8:36 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من أفضل فريق عربي في دور المجموعات بمونديال الأندية؟

النمسا.. ما هو أعمق من «دبلوماسية الكشرى»!

نشر فى : الثلاثاء 1 يوليه 2025 - 7:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 1 يوليه 2025 - 7:45 م

 بزيارة وزيرة خارجية النمسا بياته ماينل رايسنجر إلى الشرق الأوسط خلال الأيام الماضية، تعود فيينا إلى دائرة الضوء الدبلوماسى فى واحدة من أكثر مناطق العالم اشتعالًا. إلا أن هذه الزيارة لم تكن فقط استعراضًا لدعم تقليدى لإسرائيل، ولا مجرد مرور لالتقاط الصور فى مطاعم الكشرى بالقاهرة؛ بل كانت اختبارًا صعبًا لمدى قدرة دولة أوروبية - صغيرة فى المساحة، لكن سياستها الخارجية لا تزال تتعامل مع القضايا الدولية انطلاقًا من ميراثها الإمبراطورى - على قول الحقيقة فى وجه الحلفاء، دون أن تخرج عن الخط الأحمر الدبلوماسى.

من عبور جسر الملك حسين، وصولًا إلى مدينة «بات يام» التى تعرضت لقصف إيرانى، حملت الوزيرة النمساوية حقيبتها المحمّلة بالرسائل المتعددة: التضامن مع إسرائيل فى أمنها وهو موقف تقليدى، مع الدعوة إلى وقف كارثة غزة، والتأكيد على ضرورة حلٍّ سياسى ينهى دوّامة العنف. لكنها لم تكتفِ بالعبارات الأوروبية المعلبة. قالتها بوضوح: GHF ليست شريكًا موثوقًا، مشيرة إلى الجهة المثيرة للجدل التى توزّع المساعدات فى غزة، والمدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل. وهو موقف نادر فى صراحته، وصادق فى واقعيته.

فى مواجهة وزير خارجية إسرائيلى يرفض علنًا حلَّ الدولتين، ويعتبر الفلسطينيين تهديدًا أمنيًا دائمًا، لم تتردد رايسنجر فى الحديث عن أنه لا يمكن تبرير الفوضى بقناع «مكافحة الإرهاب»، وأن سياسة إسرائيل فى القطاع صارت «عبئًا إنسانيًا» يهدّد العلاقات بين أوروبا وإسرائيل. وبعبارة تكاد تُعد خرقًا للأعراف الدبلوماسية فى زيارات كهذه، صرّحت: «جئت كصديقة، لكننى سأقول الحقيقة كصديقة». كلمات تُحسب لها لا عليها.

• • •

هذه الوزيرة الشابة، زعيمة حزب الليبراليين الجدد (NEOS)، تشارك فى حكومة نمساوية ثلاثية الألوان، تضم حزب الشعب المحافظ (ÖVP)، والاشتراكيين الديمقراطيين (SPÖ) إلى جانب حزبها. فى إطار هذا التحالف، اختارت رايسنجر اتباع دبلوماسية ميدانية ترتكز على المشاهدة والانخراط المباشر فى الميدان. هذا النهج أهلها لنيل احترام لافت، كما أسهم فى تعزيز موقع النمسا كلاعب ووسيط إنسانى، قبل أن تتحول إلى طرف سياسى.

يُعد هذا تطورًا لافتًا فى السياسة الخارجية النمساوية فى عهد الحكومة الثلاثية الجديدة، التى ابتعدت نسبيًّا عن سياسة الانحياز الصارخ لإسرائيل، التى شهدناها فى حقبتى المستشارين  السابقين سبستيان كورتس وكارل نيهامر. بل صار النهج أقرب نسبيًّا إلى ميراث المستشار الاشتراكى - الديمقراطى التاريخى برونو كرايسكى فى السبعينيات، اليهودى المناصر لحقوق الفلسطينيين، وأول زعيم أوروبى استقبل ياسر عرفات رسميًّا فى أوروبا.

هذا الابتعاد النسبى يعود فى المقام الأول إلى وجود الحزب الاشتراكى الديمقراطى فى التحالف، الذى يحمل مواقف داعمة لحقوق الشعب الفلسطينى. وليس ذلك فحسب، فشخصية رايسنجر الأخلاقية المرتبطة بخلفيتها الحزبية، تتحالف مع رصانة المستشار المحافظ كريستيان شتوكر، الذى يُعد أكبر سنًّا وأكثر اعتدالًا مقارنة بسلفيه كورتس ونيهامر، ما يُعمّق هذا الانعطاف النوعى فى النهج النمساوى.

وربما الأهم من المواقف الكلامية هو إعلان تخصيص 3 ملايين يورو إضافية للمساعدات، تُسلَّم فقط  للصليب الأحمر، متجاوزة الجهة المثيرة للشبهة. بهذا التمويل، وضعت معيارًا عمليًا واضحًا: المساعدة لا يجب أن تخضع للشروط، لكن يجب أن ترتبط بالشفافية.

• • •

صورة رايسنجر وهى تساعد فى تعبئة أطباق الكشرى فى القاهرة قد تكون لفتة إنسانية جلبت ملايين المعجبين العرب على وسائل التواصل الاجتماعى، لكنها ليست جوهر القصة. الجوهر أن هذه الوزيرة اختارت ألّا تكون مجرد سيدة أوروبية تزور منطقة الكوارث لتتأمل الدمار وتعود. دخلت فى صلب النقاشات مع وزير الخارجية المصرى بدر عبد العاطى، تحدثت إلى الإيرانيين، وزارت الإسرائيليين، واستعدت للقاء الفلسطينيين فى الضفة، كل ذلك خلال أيام معدودة.

هى لا تملك مفاتيح الحل، ولا تقود تحالفًا دوليًا، لكن موقفها يؤكد أن السياسة الخارجية لا تحتاج إلى ضجيج لتكون فعّالة. أحيانًا، يكفى أن تقول الحقيقة بأدب، وأن ترفض أن تُبيّض المأساة تحت راية «التحالفات الثابتة».

فهل تكون هذه البداية لصوت أوروبى ثالث؟ لا يبرر الاحتلال، بل يضغط نحو حلٍّ حقيقى؟ ربما. لكن المؤكد أن رايسنجر قالت ما يجب أن يُقال. والبقية على من يملك أدوات الفعل.

التعليقات