أوروبا تُراجع ذاتها في غزة.. الدوافع والمفاعيل - خالد أبو بكر - بوابة الشروق
الأربعاء 28 مايو 2025 1:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أوروبا تُراجع ذاتها في غزة.. الدوافع والمفاعيل

نشر فى : الثلاثاء 27 مايو 2025 - 7:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 27 مايو 2025 - 7:55 م

 

فى لحظة فارقة، قررت أوروبا أن تنظر فى المرآة. ما كانت تتجنبه لعقود، وما اعتادت دفنه تحت عبارات الحياد والالتزام بـ«حل الدولتين»، أصبح فجأة أمامها كجبل لا يمكن تجاهله: مجازر فى غزة، تجويع ممنهج، آلاف القتلى والجرحى من النساء والأطفال والمدنيين العزل الأبرياء، وخطاب سياسى إسرائيلى لا يرى فى الفلسطينى إلا عائقًا يجب إزالته.

هذا ليس تحولًا فى اللهجة فقط، بل تحول فى الضمير الأوروبى الرسمى. عواصم كبرى ــ باريس، مدريد، ستوكهولم، وحتى لندن ــ لم تعد تتحدث عن إسرائيل بصيغة «الحليف المظلوم»، بل بـ«الطرف الخارج عن القانون الدولى». وها نحن نرى للمرة الأولى منذ عقود، تزايد الانتقادات الأوروبية لإسرائيل، مع دعوات لمراجعة الاتفاقات ووقف تصدير الأسلحة، وسط تأييد متصاعد للاعتراف بدولة فلسطينية، حتى المستشار الألمانى فريدريش ميرتس انتقد بشدة العمليات الإسرائيلية فى غزة، معتبرًا استهداف المدنيين كارثة إنسانية، فى مؤشر على تحول محتمل فى الموقف الألمانى التقليدى الداعم لإسرائيل.

• • •

لكن لنسأل السؤال الجوهرى: ما الذى دفع أوروبا إلى هذا التحول الجذرى الآن؟

الجواب يبدأ من تغيّر فى توازن القوى الدولية؛ فالعلاقة العضوية التى طالما ربطت السياسات الأوروبية بالقرار الأمريكى تمر اليوم بمأزق واضح. الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب، تعيد تموضعها الإقليمى والدولى، وتتصرّف وفق مصالح لم تعد تتطابق دائمًا مع أولويات ومصالح أوروبا.

وحين لا تكون واشنطن مظلّة، تجد العواصم الأوروبية نفسها فى موقع المسئولية المباشرة عن أفعالها. لم يعد بالإمكان تبرير الصمت، لا شعبيًا ولا قانونيًا. فالمواد التى تستخدمها إسرائيل فى قصف غزة تصنّع وتورّد من دول أوروبية، والعلاقات التجارية والعسكرية التى كانت تُدار فى الظل باتت تحت الأضواء، تواجه أسئلة لا مهرب منها: هل تُشارك أوروبا، ولو بصمت، فى حرب تُصنّفها محكمة العدل الدولية بأنها قد ترقى إلى الإبادة الجماعية؟

ثم هناك الوعى القانونى الجديد. قرارات محكمة العدل الدولية، وتزايد دعاوى الجنائية الدولية، وازدياد الأصوات الحقوقية داخل البرلمانات الأوروبية خلقت ضغطًا مركّبًا: داخليًا من المؤسسات، وخارجيًا من الرأى العام والمنظمات الحقوقية. وأمام هذا الضغط، لم يعد كافيًا إصدار بيانات «القلق»، بل بات لزامًا اتخاذ موقف، حتى لو رمزى، يعيد لأوروبا شيئًا من وزنها الأخلاقى المفقود.

• • •

لكن مع كل هذا، يبقى السؤال الأهم: هل تملك أوروبا القدرة على إحداث تغيير فعلى؟ هل يمكن أن تؤدى هذه المواقف إلى وقف إطلاق النار، أو تعديل فى سلوك إسرائيل؟

الإجابة الواقعية: ليس وحدها؛ فالحلقة المفقودة لا تزال فى واشنطن. أوروبا تُحرج إسرائيل، لكنها لا تردعها. تُلوّح بالعقوبات، لكنها لا تفرضها. وفى ظل حكومة إسرائيلية تتعامل مع كل نقد باعتباره «هدية لحماس»، فإن تل أبيب لا تأخذ المواقف الأوروبية على محمل الجد ما دامت تعرف أن الغطاء الأمريكى لم يُسحب تمامًا بعد.

لكن هذا لا يقلّل من أهمية ما يحدث. فللمرة الأولى منذ عقود، تتشكل فى أوروبا جبهة سياسية وشعبية ترى فى فلسطين قضية عادلة، لا عبئًا دبلوماسيًا. هذا الوعى المتنامى قد لا يوقف الحرب اليوم، لكنه يُمهّد لمعادلة جديدة: أن إسرائيل لم تعد الطرف الذى يحظى بامتياز الحصانة الدائمة فى الغرب.

• • •

يمكننا القول إنه إذا قررت أوروبا ــ ولو جزئيًا ــ أن تُقرن الأقوال بالأفعال، مثل مراجعة اتفاق الشراكة الأوروبى ــ الإسرائيلى الذى يعود إلى 1995، فإن الكلفة الاقتصادية وحدها قد تغيّر الحسابات فى تل أبيب. وفق تقارير اقتصادية إسرائيلية، أى تعليق للاتفاق قد يُكبّد إسرائيل أكثر من 40 مليار يورو، وهو رقم لا يمكن تجاهله، حتى فى أكثر الحكومات تطرفًا.

فى نهاية المطاف، أوروبا اليوم لا تقود، لكنها تُعلن أنها لم تعد تتابع من المقعد الخلفى.

وهذا، فى حد ذاته، بداية.

التعليقات