نُقِل عن رئيس مجلس الأمن القومى تساحى هنجبى، قوله خلال جلسة لجنة الخارجية والأمن فى الكنيست إنّ سوريا ولبنان، هما من الدول المرشّحة لإقامة تطبيع مع إسرائيل. وبعد ذلك بعدّة أيام، وردت تقارير عن لقاء جرى، على ما يبدو، بين ممثّل لمجلس الأمن القومى والرئيس السورى الشرع، فى أثناء زيارته إلى الإمارات، غير أنّ كلَى الطرفين نفى حدوث اللقاء.
وبات الحديث عن اتفاقيات تطبيع مع دول عربية و/أو إسلامية يُسمع فى الآونة الأخيرة بصورة أساسية من جانب ترامب وويتكوف ونتنياهو وآخرين. فبعد «اتفاقيات أبراهام»، ترسّخت كلمة «تطبيع» فى الخطاب والبلاغة السياسية، لِمَا تنطوى عليه من وعدٍ بعلاقات جديدة ودافئة، على خلاف اتفاقيات السلام «الباردة» مع مصر والأردن.
وإنّ استخدام مصطلح «تطبيع» لوصف علاقة ممكنة مع سوريا ولبنان ربما يكون مُضلِّلًا، إذ إنّه ينطوى على تصوّرات تتجاوز ما يبدو واقعيًا فى الوقت الراهن. وقد صرح مصدرٌ سورى رسمى لقناة الجزيرة بالقول: «التصريحات التى تتحدّث عن توقيع اتفاق سلام بين إسرائيل وسوريا فى الوقت الحالى هى تصريحات متسرّعة. لا يمكن الحديث عن إمكان التفاوض على اتفاقيات جديدة إلاّ بعد أن تلتزم إسرائيل التزامًا كاملًا باتفاق فصل القوات لسنة 1974، وتنسحب من المناطق التى اجتاحتها».
• • •
وتُعد الاتصالات التى تطوّرت بين إسرائيل وسوريا عَقِبَ سقوط نظام الأسد واستيلاء أحمد الشرع على الحكم فى ديسمبر 2024 مفاجئة، وذلك لسببين رئيسيَين: الأول أن التنظيم الذى كان يقوده الشرع، «هيئة تحرير الشام»، هو تنظيم جهادى ذو أيديولوجيا إسلامية واضحة، يرى فى إسرائيل والصهيونية عدوًّا يجب استئصاله.
ثانيًا أن ردة الفعل العسكرية الإسرائيلية على سقوط النظام، عبر إلغاء اتفاق فصل القوات لسنة 1974 والسيطرة على المنطقة المنزوعة السلاح، بالإضافة إلى قمة جبل الشيخ ومناطق أُخرى، وتقديم الدعم إلى الدروز، من شأنه أن يؤدّى إلى تصعيد وتوتّر وعداء. ومع ذلك، فإنّ الموقف المعتدل الذى اتّخذه النظام السورى، سواء عبر تصريحاته أو سلوكياته تجاه إسرائيل، بما فى ذلك امتناعه من إدانة إسرائيل فى أثناء هجومها على إيران، وسماحه، سواء بالصمت أو بالموافقة، لطائرات سلاح الجو الإسرائيلى بالمرور فوق الأجواء السورية، كلّها عوامل ساهمت فى تعزيز الانطباع بأنّ الصورة المتطرّفة الملتصقة بالنظام الجديد لم تعد ملائمة أو دقيقة. كما ساهم أيضًا لقاء الرئيس ترامب السريع مع الشرع خلال زيارته إلى السعودية وقراره برفع العقوبات عن سوريا فى تعزيز هذا التوجّه.
• • •
ومع ذلك، فإنّ نظرة تاريخية سريعة إلى العلاقات بين إسرائيل وسوريا تُبيّن أنّه على الرغم من كون سوريا عدوًّا عنيدًا خاض أربع حروب ضد إسرائيل (1948، 1967، 1973، 1982)، فإنها دخلت مفاوضات مع إسرائيل فى عدّة مناسبات، وكانت فى بعض الأحيان قريبة من توقيع اتفاق سلام معها. وفى الواقع، فإنه حتى خلال فترة الانتداب، حين كانت سوريا تحت الحكم الاستعمارى الفرنسى، أقام سياسيون سوريون اتصالات وعلاقات مع قادة الوكالة اليهودية بهدف الحصول على دعم اللوبى اليهودى لاستقلال سوريا.
وبعد حرب النكبة، قام ضابط الجيش حسنى الزعيم، الذى استولى على السلطة سنة 1949، بعرض إقامة سلام مع إسرائيل واستيعاب نصف اللاجئين الفلسطينيين فى مقابل انسحاب إسرائيل من نصف بحيرة طبريا. ويعتبر البعض هذه المبادرة فرصة تاريخية ضائعة، لكن الزعيم اغتيل بعد ثلاثة أشهر فقط من استيلائه على الحكم، ولذلك لم تتَح لها الفرصة للتحقّق. كما أجرى ضابط آخر (أديب الشيشكلى) فى خمسينيات القرن الماضى اتصالات مع إسرائيل من أجل التوصّل إلى اتفاق، لكن هذه الجهود لم تُثمر أيضًا.
ولم تتوافّر شروط توقيع اتفاق حقيقى إلاّ بعد أن استولى حافظ الأسد على الحكم سنة 1970عقب حرب أكتوبر. آنذاك، تمكّن وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر، بعد جهود مضنية من التوصّل إلى توقيع اتفاق فصل أول (وأخير) بين البلدين فى مايو 1974، وهو الاتفاق الذى صمد حتى الآونة الأخيرة، حيث حافظ السوريون، من جانبهم، فى الأغلب على الهدوء فى الحدود.
وكانت هناك محاولات أكثر جدّية لتوقيع اتفاق سلام فى تسعينيات القرن الماضى، بعد اتفاق أوسلو، حيث أدار نظام الأسد مفاوضات مباشرة بوساطة أميركية مع كلٍّ من رابين، وبيرس، ونتنياهو، وباراك، وكان باراك الأقرب إلى التوصّل إلى اتفاق، إذ لم يفصله عنه سوى بضع عشرات من الأمتار عن ضفاف بحيرة طبريا.
وخلال عهد بشار الأسد، جرت على الأقل محاولتان جديّتان للتوصّل إلى اتفاق: الأولى فى فترة أولمرت، والثانية فى عهد نتنياهو، وذلك قبيل اندلاع الحرب الأهلية فى سوريا، ومن الجدير بالتنويه أنّ هناك شهادات تاريخية تفيد بأنّ نتنياهو، خلال ولايته كرئيس حكومة سنة 1996، ومرة أُخرى سنة 2010، أبدى سرًّا استعدادًا للانسحاب من هضبة الجولان، وهو أمر ينفيه، لأنّه لا يتماشى مع الصورة التى يسعى للظهور بها كشخص يرفض التنازل عن الجولان.
وخلال الحرب الأهلية السورية (2011-2024)، حافظت إسرائيل على علاقات مع فصائل من المعارضة المسلحة فى جنوب سوريا، وكذلك مع ممثّلين عن الطائفة الدرزية، وذلك بعد سقوط نظام الأسد.
أمّا المصلحة العاجلة لأحمد الشرع، فهى إدخال سوريا فى مسار إعادة الإعمار، بالتوازى مع التعامل مع مطالب ومخاوف الأقليات (كالأكراد، والدروز، والعلويين)، ومحاربة الفصائل الجهادية المتمرّدة. وهذه الرحلة لا تزال فى بدايتها، فالاستقرار والهدوء على الحدود سيجلبان له الاستثمارات والقروض من المجتمع الدولى بكثرة.
• • •
ووفق تحليل واقعى، فإنّ تطبيعًا كاملًا مع إسرائيل يمكن أن يُلحق الضرر بشرعية الشرع، وهى شرعية غير مؤكّدة أصلًا، خصوصًا إذا تضمّن التطبيع تنازلًا عن هضبة الجولان. وفى المقابل، فإنّ اتفاقًا محدودًا يُعيد الأمور إلى ما كانت عليه يمكن أن يُعَدّ إنجازًا أمام الرأى العام السورى. وفى هذه الأثناء، وبعكس التوقّعات والخطاب الإعلامى فى إسرائيل، فإن وسائل الإعلام السورية لا تتناول هذا الملف بكثافة، وإن كانت هناك إشارات أولية إلى محاولة تمهيد الرأى العام للاستفادة الممكنة من السلام.
إنّ توقيع اتفاق أمنى مُجدَّد بين إسرائيل وسوريا، إذا ما تمّ، يمكن أن يفضى إلى نشوء تطبيع من نوع جديد. وحتى الآن، تعرّفنا على ثلاثة أنواع من التطبيع: الأوّل، وجود اتصالات وراء الكواليس من دون اتفاق رسمى. والثانى، وجود علاقات رسمية على المستوى الحكومى أساسًا، وهو ما يُطلَق عليه عادة «سلام بارد». والثالث، علاقات أكثر دفئًا تشمل أيضًا تواصلًا مع منظمات من المجتمع المدنى. ويبدو أنّ النوع الجديد من التطبيع سيكون أقلّ من اتفاق سلام، لكنّه يمكن أن يتضمّن ترتيبات أمنية تقود إلى تعاون سرى فى سلسلة من المصالح المشتركة فى المنطقة، فى مواجهة إيران وأعداء آخرين مشتركين.
ويمكن لاتفاق كهذا أن يُمهّد الطريق لتطبيع على غرار «اتفاقيات أبراهام»، بعد عملية من التعارف وبناء الثقة. ومن الأمثلة على بناء الثقة، مشاركة رجل الأعمال والناشط السياسى السورى شادى مرتينى، الذى شارك فى جهود الإغاثة الإنسانية التى قدّمتها إسرائيل على الحدود خلال فترة الحرب الأهلية، فى الجلسة الافتتاحية لتجمّع اللوبى فى الكنيست من أجل الدفع فى اتجاه تسوية أمنية إقليمية.
وعلى الرغم من ذلك، فستظلّ قضية هضبة الجولان قائمة: فمن جهة، فى الجبهات الأخرى انسحبت إسرائيل من جميع الأراضى التى احتلّتها سنة 1967، الأمر الذى شكّل سابقة، وأوجد توقّعات فى الجانب العربى، ومن جهة أخرى، فإنّ سوريا اضطُرّت منذ سنة 1939 إلى «ابتلاع» خسارة لواء الإسكندرون لمصلحة تركيا، على الرغم من أنّ ذلك جرى عقب استفتاء من جانب عصبة الأمم، لكنّ هذه القضية لا تبدو أنّها تُعيق ازدهار العلاقات بين سوريا وتركيا فى يومنا هذا.
ولهجوم «حماس» فى 7 أكتوبر العديد من النتائج غير المتوقّعة، وكان سقوط نظام الأسد أحدها، وأى تسوية بين إسرائيل وسوريا ستندرج فى هذه الفئة.
قناة N12
مؤسسة الدراسات الفلسطينية