منذ حوالى ثلاثة عقود من الزمن انسحبت أمريكا من عضوية منظمة اليونسكو بسبب عدم رضاها عن أحد القرارات، فوجدت المنظمة نفسها فى وضع مالى صعب. غير أن اليابان ساهمت بتخفيف تلك الضائقة من خلال زيادة نسبة اشتراكها المالى.
لكن منظمة اليونسكو أضاعت كرامتها وعزّة نفس أعضائها، إذ ظلّ مديرها العام وقتها يذهب إلى واشنطن مترجّيا عودة أمريكا وشبه معتذر وواعدا بأن لا تتخذ المنظمة مستقبلا أى قرارات أو مواقف تزعج أو تحرج أمريكا.
فى اجتماع للمجلس التنفيذى للمنظمة، قدم المدير العام الاسبق، بتفاخر واعتزاز بانجازه، تقريرا عن زيارته لأمريكا وجلوسه أمام لجنة من لجان الكونجرس الأمريكى لشرح ملابسات الأمر ودعوته أمريكا للعودة إلى عضويتها المهمة فى اليونسكو وأنه شخصيا متفائل ومؤمل بعودتها.
انبريت كعضو فى المجلس، وكممثل لبلدى البحرين، وانتقدت بشدة ما قام به المدير العام ووصفت ما قام به بأنه خضوع من قبل الإدارة، وبالتالى من قبل كل الدول الأعضاء، للابتزاز الأمريكى وأن الذى كان يجب أن يأتى إلى باريس ليطلب العودة والاعتذار عن ممارسة الابتزاز هى الحكومة الأمريكية، وأن المنظمة يجب أن يكون لديها احترام لكرامتها واعتزاز بأهميتها العالمية، وبالتالى تطلب الدول الانضمام إليها لا أن تترجى هى من هذه الدولة أو تلك، مهما كبرت أو صغرت ومهما كانت مقتدرة ماليا، أن تتفضل وتنضم إليها.
ما أشبه الليلة بالبارحة. بالأمس احتقرت أمريكا اليونسكو، واليوم تحتقر جميع دول هيئة الأمم المتحدة عندما يقف رئيسها بغطرسة وقلة احترام، ويصرح منذ بضعة أيام بأن أمريكا قد أخذت مؤخرا مكان هيئة الأمم بالنسبة لحل المشاكل الدولية المستعصية، وأصبحت هى المرجعية وهى جهة اتخاذ القرار. وفى هذا الكلام استهزاء وفيه ابتزاز.
هل ننتظر رد فعل من قبل هيئة الأمم المتحدة على صدور إهانة علنية من قبل أحد أعضائها؟ نعم، ننتظر، وبشرط أن يحفظ كرامة أعضاء الهيئة وكرامة إدارتها، بعد مناقشة الأمر فى الجمعية العمومية وإشعار أمريكا بأن هذه الإهانات والابتزازات من قبل أمريكا للهيئة أو لوكالاتها من مثل الأونروا لن تقبل بعد الآن وأن عليها، عندما تكون لديها ملاحظات، أن تأتي، مثل غيرها، وتناقش الأمور فى الجمعية العمومية أو مجلس الأمن وتقبل بقرارات الأغلبية كما يفرضها كون هيئة الأمم المتحدة هيئة تشاركية ديموقراطية وليست تابعة لنزوات هذه الدولة أو تلك. لقد آن الأوان أن تدرك أمريكا أن المنظمات الدولية قادرة على أن تعيش بدون أمريكا، بينما أن أمريكا لن تستطيع العيش معزولة عن المجتمع الدولى ومؤسساته.
إنه لا يكفى أن أمريكا تعطل الكثير من قرارات مجلس الأمن، خدمة للصهيونية العالمية ولكل من يأتمر بأمرها كخادم مطيع، حتى تضاغف الأمر، على لسان رئيسها، بأنها قد أخذت مكان الهيئة فى حل المشاكل الدولية. وبالتالى فإن الرئيس الأمريكى يبشرنا بحلول العصر الأمريكى وأفول العصر الأممى المحكوم بالاحترام المتبادل وبالمصالح المتوازنة وبمبادئ العدالة والحوار والأخذ والعطاء لصالح جميع الفرقاء.
مطلوب من عقلاء نظام الحكم فى أمريكا أن يدركوا أن مثل هذه المواقف والتصريحات الأمريكية ستضرّ بمكانة وسمعة أمريكا قبل أن تمس تركيبة المجتمع العالمى الذى يسعى العقلاء أن يصبح أكثر تعقلا وتوازنا لمصلحة الجميع، وليس أن يبقى ألعوبة فى يد أمريكا، مهما ملكت من قوة عسكرية ومن مال وفير.
أيضاً آن الأوان أن تدرك أمريكا أنها عضو مساو للأعضاء الآخرين فى المؤسسات الدولية وليست لها ميزات الصدارة والمكانة الخاصة، وأن استضافة أمريكا لمقر هيئة الأمم فى نيويورك مشروط بقيم وسلوكيات تحترم استقلالية المنظمة وتكوينها الديموقراطى، وإلا فلتحترم الجمعية العمومية نفسها ولتقرر نقل مقرها إلى دولة لا تمارس الاستهزاء والابتزاز والهيمنة الطفولية، فكرامة مؤسسات المجتمع الدولى هى فوق كل النرجسيات الأمريكية التى لا تتوقف ولا تخجل.
مفكر عربى من البحرين