إبراهيم المعلم وعقود من رفعة الثقافة العربية - خالد أبو بكر - بوابة الشروق
الخميس 5 يونيو 2025 3:13 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

إبراهيم المعلم وعقود من رفعة الثقافة العربية

نشر فى : الثلاثاء 3 يونيو 2025 - 8:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 3 يونيو 2025 - 8:25 م

احتفل المهندس إبراهيم المعلم، الأسبوع الماضى، بعيد ميلاده الثمانين، فى لحظة تبدو وكأنها تتويج لمسيرة استثنائية دامت عقودًا، بحصوله على أرفع جائزة دولية فى مجال النشر: «بطل النشر الدولى» من اتحاد الناشرين الدوليين. جائزة نالها عن جدارة، وكان أول ناشر عربى وإفريقى يحصدها، بعد رحلة طويلة من الإسهام الحقيقى فى رفعة الثقافة العربية، لا بالشعارات بل بالفعل اليومى العميق والمستمر.
عملت فى جريدة «الشروق» منذ أعدادها التجريبية، وشغلت فيها مناصب تحريرية حتى وصلت إلى موقع مدير التحرير. وطوال مسيرتى المهنية ألتزم التزامًا صارمًا بقاعدة شخصية تقضى بعدم الكتابة عن رؤسائى فى العمل، درءًا لأى شبهة مجاملة أو تزلّف. غير أننى اليوم أكتب عن المهندس إبراهيم المعلم بلا تردد، وقد غادرت موقعى التنفيذى فى المؤسسة، فلم يعد فى الأمر ما يُحتسب سوى العرفان بالفضل.
• • •
أكتب اليوم عن رجل لم يسعَ يومًا ليثبت سلطته على من حوله، بل جعل من سلطته وسيلة للتمكين والتشجيع والاكتشاف. لا أنسى كيف بدأ كل شيء بيننا بمكالمة هاتفية مقتضبة، لكنها غيرت مجرى حياتى المهنية قاطبة. قال: «إنت فين؟ بعد ساعتين تعالى لى البيت، سيراك السيد عمرو موسى، لأنك من سيكتب مذكراته».
كان هذا الاتصال الأول بينى وبينه. لم أكن قد التقيت رئيس مجلس إدارة الشروق من قبل إلا فى مناسبات عامة، ومع ذلك منحنى هذه الثقة النادرة. رأى أننى موهوب، مؤهل، وأستحق الفرصة. وكان هذا كافيًا لديه.
هذه هى طبيعة إبراهيم المعلم: لا يضع بينه وبين الناس حواجز من الألقاب أو البروتوكولات بل يختار ويمنح، ثم يقف داعمًا بصمت خلف من يختارهم، دون انتظار شكر أو امتنان. وهذه ليست تجربتى وحدى، بل تجربة كثيرين فى الصحافة والنشر والثقافة والرياضة، ممن لمسوا دعمه الهادئ الحاسم.
• • •
خلال أكثر من نصف قرن، ظل المعلم ودار الشروق التى أسسها مع والده الأستاذ محمد المعلم، وطورها، بمثابة منارة لاكتشاف المواهب العربية فى الصحافة والفكر والأدب. ولم يكن النشر عنده تجارة بل رسالة ومشروعًا وطنيًا وقوميًا، رسالة تنحاز إلى القيم الكبرى: المعرفة، التنوير، والاستقلالية.
وقد قاتل الرجل كثيرًا من أجل مأسسة هذه الرسالة. فقاد عملية إعادة إحياء اتحاد الناشرين المصريين بعد سنوات من النسيان، ومنه انطلق لتأسيس اتحاد الناشرين العرب، وشغل منصب رئيس الاتحادين المصرى والعربى، وظل يعمل بلا كلل لوضع النشر العربى على خريطة النشر العالمى، حتى أصبح نائبًا لاتحاد الناشرين الدوليين، ثم نال جائزة «بطل النشر الدولى» عن مجمل ما قدم.
اللافت فى حديث المعلم بعد الجائزة، أنه لم يرَ فيها تكريمًا لشخصه فقط، بل «تكريمًا لكل العرب»، على حد وصفه. فكما قال: «ردود الفعل أثبتت أن الجائزة أحسّ بها كثيرون كأنها منحت لهم شخصيًا». وهو شعور صادق يعكس طبيعة هذا الرجل الذى جعل من نجاحه مساحة يتشارك فيها الجميع.
من بين ما أضاءه فى كلمته خلال التكريم فى المكسيك، حديثه المؤثر عن أهمية حرية النشر، وحرية الوصول إلى المعلومة، وعن تمكين ثقافة الطفل، ومحاربة القرصنة، وصون حقوق المؤلف والناشر، وهى كلها معارك خاضها طوال حياته المهنية بلا هوادة.
وأشار إلى أن الإبداع، فى رأيه، لا يقتصر على الكتابة أو النشر، بل يمتد إلى الرياضة والثقافة والسياسة، وكلها أشكال مختلفة يجمعها فى داخله شعور واحد: المسئولية. وقد أثبت بالفعل أن المجتمعات التى تحتفى بمنجز أبنائها قادرة على التقدم والمواكبة، حتى فى وجه الثورات الرقمية والذكاء الاصطناعى.
• • •
اليوم، وفى لحظة بلوغه الثمانين، لا يبدو المعلم كمن أنهى رحلة، بل كمن بدأ فصلًا جديدًا فيها. فالحياة فى عينيه لا تزال مشروعًا مفتوحًا، والثقافة العربية لا تزال فى حاجة إلى رجال مثله، ممن لا يكلّون، ولا يتراجعون، ولا يطلبون مقابلًا، سوى أن تمضى الكلمة الحرة قدمًا.
شكرًا للمعلم، لا على ما أعطى لى فقط، بل على ما أعطى للثقافة العربية كلها من رقى وثقة وإيمان بأن الكلمة ما زالت قادرة على أن تصنع التغيير.

التعليقات