الروماتويد أولاً؟ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 9:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الروماتويد أولاً؟

نشر فى : الخميس 30 يونيو 2011 - 8:56 ص | آخر تحديث : الخميس 30 يونيو 2011 - 8:56 ص

 («مصر أولاً» و«الدستور أولاً» فمتى ننتقل إلى «ثانياً».. بدلاً من انتخاب مجلس شعب ومعه مجلس شورى يتم انتخاب مجلس شعب ومعه جمعية تأسيسية كحل يرضى كل الأطراف المصابة بالروماتويد).

قرأت ما سبق لجلال عامر، فضحكت ذلك الضحك المفعم بالطزاجة الذى يشرح الصدر ويومض فى العقل كلما قرأت لهذا العبقرى ويدفعنى لمحادثته بين الحين والحين، فتدهشنى بساطته ويشف صدقه، لأوقن أن العبقرية حالة تتجاوز الموهبة، لتدخل فى أعجوبة الإلهام، وهو ما تكرر فى المرة الأخيرة عندما سألته لماذا اختار «الروماتويد» تحديدا ليغلق به فقرته. وبعد أن أخذ يتكلم عن «الأطراف» و«تساقط الأطراف» ويلف ويدور حول «الأطراف»، وأنا أحاصره بمكر المحب وتضاحك الصديق وفضول الباحث، استسلم مبتسما يقول لى: «هيَّ جت كده». وهذا عين ما كنت أنتظره!

هى جت كده، برغم ثقافة جلال عامر العريضة العميقة التى تطل برأسها قليلا قليلا فيما يكتب، وكأنها لا تريد أن تخدش صفو تلقائية الإلهام، ففى حالة جلال عامر التى تنثال على ذهنه الموهوب الأفكار اللامعة متزاحمة متدافعة لتصوغ فى النهاية فقاعة ضحك نديٍّ تنفجر فى وجه القارئ مبللة إياه برذاذ منعش يبعث على التفكير الصافى فى مسائل كبرى تكاد تكون عقدا قومية، يحلها ببساطة سحرية باسمة أو ضاحكة أو مقهقهة، وهو ما جاء فى فقرته السابقة، ويتعلق بورطة تشق على الأمة وتكاد تشقها وعنوانها «الدستور أولا أم الانتخابات أولا»، وكما هو واضح مما كتبه يدعو جلال عامر إلى إجراء الانتخابات البرلمانية كما هو مقرر لها تبعا لما أسفرت عنه نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، بغض النظر عما شاب هذه التعديلات من «حول» (والتعبير لى وليس لجلال عامر)، وفى نفس الوقت يُجرَى انتخاب لجنة وطنية مستقلة لصياغة الدستور بدلا من هزل المدعو «مجلس الشورى»، وبذلك يكون المتخوفون من وصاية اتجاه معين على دستور يشمل الجميع (وهو خوف مُبرَّر) قد أمنوا من الخوف، ويكون المتشبثون بحكاية «إرادة الأغلبية» (وهى ليست كذلك تماما) قد فازوا بتشبثهم. فماذا عن الروماتويد؟

«هى جت كده»، لكننى أعتقد أن مجيئها ليس «كده» لو أعملنا بعضا من البحث عن تلك الروابط الشفافة والمتينة فى أى نسيج إبداعى، فثمة رؤية حدسية تحدث فى الإبداع ولا يشعر بها الفنان أحيانا، لهذا دعوت مِرارا إلى أخذ ما يذهب إليه الفنانون بجدية حتى فى المسائل «الاستراتيجية» من سيناريوهات الحاضر والمستقبل الكبرى، وسأظل أستغرب خلو مراكز الدراسات الاستراتيجية من إسهامات المشتغلين بالخيال وعدم استشفاف رؤاهم التى قد تكون صائبة جدا ونبوئية وعظيمة القيمة، فهى تمسك بقلب المسائل بيسر لا يتيسر لمُعاظلات «المفكرين» «الاستراتيجيين» أحيانا، ودليلى على ذلك هو حكاية الروماتويد التى «جت كده» كما يظن جلال عامر. ففى هذه الكلمة حشد من الدلالات الساخرة والمُحذرة والمستنكرة والآملة لو تعمقنا فى مراميها البعيدة.

الروماتويد واحد من الأمراض المنتمية إلى ما يسمَّى «أمراض المناعة الذاتية»، وهى حالة يدمر فيها الجسد نفسه أو جزءا منه نتيجة عمى وتهيج الجهاز المناعى بشكل يجعله لا يستطيع التعرف على خلايا أو أنسجة الجسد الذى ينتمى إليه، فيهاجمها على اعتبار أنها خلايا معادية أو أجسام غريبة، وقد أخذت هذه الأمراض فى أول الأمر عنوان «التسمم الداخلى المرعب» الذى أطلقه الدكتور الألمانى «بول إيرليتش» الفائز بجائزة نوبل فى الطب والفسيولوجيا عام 1908، وهو عبقرى اكتشف دواء معالجة الزهرى الذى كان معروفا بحقنة 606 تبعا لترتيب هذا الاكتشاف ضمن الأدوية التى طورها منفردا أو بقيادة فريق بحثى، وقد جاء هذا الرجل إلى مصر عام 1914 ومكث فيها سنتين التماسا للاستشفاء من مرض السل الذى ثقل عليه لعل الطقس الجيد والغذاء الصحى يجعلانه يتغلب على مرضه الذى أصيب به حين كان السل متوطنا فى أوروبا بينما كان هو عالم الطب الفذ شديد الإهمال فى صحته، يأكل قليلا جدا ويدخن السيجار بشراهة حتى إنه لم يكن يظهر إلا وصندوق السيجار تحت إبطه. ولقد أثار امتعاضى أن يزوِّر الإسرائيليون الحقيقة فى هذا الشأن للإساءة إلينا ولو بأثر رجعى، فتزعم «مكتبة اليهود الافتراضية» على الانترنت أن إيرليتش اليهويدى الديانة قد «التقط عدوى السل عندما كان فى مصر»!

دعاية صهيونية مألوفة الحقارة تؤكد الطابع العدائى لهذا الكيان العنصرى المتعصب الغاصب على حدودنا، وهى نوع من التسميم من الخارج، ولا يقل عنه بشاعة ذلك «التسميم الذاتى من الداخل» الذى يمارسه منا وبيننا عبدة أفكارهم أحادية النظرة وتنظيماتهم الاستئصالية إضافة للخارجين علينا من كهوف ضيق أفق التأويل الذى لا يعكس إلا حقيقة ضيق نفوسهم، طلاب القوة التدميرية فى جوهرها لا الحق البانى فى مراميه، وهم لفيف متنافر من جانحى اليمين وجانحى اليسار يتصدرون مشاهد المبارزة الذميمة فى مصر الآن، فكلٌّ ينتصر لذاته دون اكتراث بتماسك الأمة المُطالَبة بنهوض تستدعيه المهام الجسام المحتم البدء فورا فى تنفيذها، وبإيقاع مختلف عن هذه المراوحة «الحنون» فى المكان لوزارة الحنان الحالية.

إن الفلول والذيول المضادة للثورة ليست فقط من تابعى ومنتفعى وبلطجية وأغبياء النظام الساقط، بل هم أيضا من قوى محسوبة على الثورة أو ملتحقة بها أو قافزة عليها، وليس أمام قوى الثورة المخلصة من الشباب ورحيبى الأفق من الكبار، فى كل ألوان الطيف السياسى على هذه الأرض، إلا أن يجتهدوا فى البحث عن حلول توافقية تضمن بناء الديمقراطية وترسيخ قيم العدالة والكرامة الإنسانية وحقوق المواطنة وهى أهداف نبيلة لا يختلف عليها منصف أمين مع نفسه ومع الله والناس، ولتنتهى هذه المبارزات السخيفة التى تحتدم على ظهر مركب مهدد بالغرق إن لم نتدارك الفرصة ونلحق بالوقت ونقدِّر قيمة المنحة التاريخية والسماوية التى قدمتها لنا ثورة 25 يناير. وهناك اقتراحات عديدة للخروج من مآزق الارتباك الدستورى الذى تسبب فيه بعض من استشارهم المجلس العسكرى من المدنيين فلم يحسنوا الاستشارة، وإضافة لما قدمه جلال عامر وأُزيد عليه شرط الانتخاب بالقوائم النسبية واستبعاد مفسدى النظام الساقط، فإن هناك اقتراحات توافقية جيدة عديدة مثل: وثيقة المبادئ والحقوق السياسية للمواطن المصرى التى طرحها الدكتور البرادعى، ودعوة بعض القوى الوطنية لتقنين مواد فوق دستورية تؤكد التعددية وتداول السلطة لحماية الأمة من تغول أى فصيل سياسى تغريه السلطة أو يغتر بها، ومسودة الدستور التى أعدها فريق من الفقهاء الدستوريين بالحزب الديمقراطى الاجتماعى وعرَض أهم بنوده العالِم الوطنى المخلص المحترم الدكتور محمد غنيم فى برنامج «العاشرة مساءً» يوم الاثنين الماضى. ولنلاحظ أن كل هذه الاجتهادات وجدت إجابة جيدة لسؤال المادة الثانية من الدستور فأبقت عليها مع إضافة ما يحفظ الحقوق الدينية لغير المسلمين، وهى إجابة تتوافق مع ما ذهب إليه المهندس خيرت الشاطر من قبل عندما أبدى ترحيبه بإضافة تؤكد حفظ هذه الحقوق. ثم إن المجلس العسكرى قد أوضح التزامه بالوصول إلى دولة مدنية على أسس ديمقراطية تتحقق فيها الحرية والعدالة الاجتماعية كما جاء فى بيانه رقم 64. فلماذا المبارزة؟

لماذا وأمامنا الكثير لننجزه بشكل عاجل كاستعادة الأمن وهيبة دولة القانون وإسعاف ضحايا القهر والفقر الذين قدموا الكثرة من شهداء هذه الثورة الأطهار وجنودها المجهولين، ثم التأهب لمهام وهموم المستقبل الذى يبدأ الآن وليس غدا. وهى مهام وهموم ضخمة لكن يمكننا مواجهتها شرط أن نكف عن ذلك العمى الإقصائى وتلك الغباوة التناحرية التى تجعل جسمنا يدمر نفسه كما فى أمراض المناعة الذاتية ومنها الروماتويد الذى تأكل فيه خلايا المناعة المختلة أنسجة المفاصل من أغشية زلالية وغضاريف حامية لأطراف العظام فيكون التشوه وتكون الاعاقة. ولا يبقى إلا أن أشكر موهبة جلال عامر، الذى قرأت فى كلمة واحدة له كل هذه الشجون، من خلال ما تزخر به سخريته الذكية الحلوة من فتون!

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .