الإيهام الإعلامى بـ«الرجل القوى» - مصطفى كامل السيد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 5:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإيهام الإعلامى بـ«الرجل القوى»

نشر فى : الأحد 31 يوليه 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : الأحد 31 يوليه 2022 - 8:45 م

مع انتهاء الموجة الرابعة من التحول إلى نظم ديمقراطية بإخفاق ثورات الكرامة العربية فى إنجاز مثل هذا التحول، ومع الأزمات المتعددة التى تواجه النظم الرأسمالية من ناحية، ومن ناحية أخرى امتلاك القدرة على المبادرة على الصعيدين الدولى والإقليمى من جانب العديد من النظم السلطوية التى يحكمها زعماء أقوياء يستهينون بالقيم الديمقراطية بل ويعلنون صراحة رفضهم لها، أشارت كتابات كثيرة خارج الوطن العربى إلى ظاهرة نظم «الرجل القوى» والتى تبدو بديلا للنظم الليبرالية سياسيا واقتصاديا، وتردد صدى هذه الكتابات فى الوطن العربى، البعض ذكرها كظاهرة تستحق الاهتمام، ومضى آخرون إلى اعتبارها روح العصر والتى يجب علينا نحن كعرب أن نقبلها، بل نرحب بها، وأن يتخلى البعض منا ــ من يزالون يدعون إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ــ عن مواقفهم هذه التى فى رأى هؤلاء الكتاب أكل عليها الدهر وشرب، وأن ينضموا إلى ركب المتحمسين لهذه الموجة الجديدة. فهل يكون مخرج بلادنا العربية بكل الأزمات المحيطة بها فى أن تجد مثل هذه الزعامات القوية، وأن تضرب عرض الحائط بكل المثل التى حركت ملايين العرب ضد النظم السلطوية منذ إحدى عشرة سنة؟ وهل تختلف الزعامات القوية التى يعرفها العالم فى العقدين الأخيرين عما عرفه الوطن العربى من قبل؟ وهل لهذه الزعامات إنجازات تبرر الدعوة للسير على طريقها؟ وهل كان نجاح بعضهم يعود لأسلوبه فى الحكم، أم أن الدولة التى يحكمها كانت لديها مقومات هذا النجاح فى وجوده أو غير وجوده؟ هذه بعض الأسئلة التى يحاول هذا المقال إثارة التفكير فيها.

الأمثلة والإنجازات وسمات حكم «الرجل القوى»
الأمثلة عديدة، أبرزها على الصعيد الدولى فلاديمير بوتين رئيس الاتحاد الروسى وكان منها دونالد ترامب الرئيس الأمريكى السابق والذى قد يعود رئيسا للولايات المتحدة بعد انتهاء الدورة الحالية للرئيس جو بايدن، ويشير هؤلاء الكتاب إلى الرئيس الصينى شى جين بينج باعتباره الأنجح من بين هذه الزعامات، وعلى الصعيد الأوروبى هناك بوريس جونسون الذى اضطر للتخلى عن منصب رئيس الوزراء فى بريطانيا انتظارا لمن يختاره حزب المحافظين خليفة له فى بداية الشهر القادم، وهناك فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر، وفى القارة الآسيوية هناك ناريندرا مودى رئيس وزراء الهند، وكيم جونج أون رئيس كوريا الشمالية، ويشار إلى كل من رجب طيب أردوغان رئيس الجمهورية التركية وبنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل السابق على أنهما نموذجان لهذه الزعامات القوية فى الشرق الأوسط.
ولكن ما الذى يجمع بين كل هؤلاء وهم يتربعون أو تربعوا على قمة السلطة فى دول تتباين من حيث نظمها السياسية والاقتصادية وتوجهاتها الأيديولوجية؟
رئيس كوريا الشمالية يتمسك بالنظام الاشتراكى الذى خرجت عنه الصين منذ إصلاحات 1978 التى اقتبست فيها الكثير من أدوات اقتصاد السوق، كما خرجت عنه روسيا بعد سقوطه فى 1991، وكل من دونالد ترامب وبوريس جونسون توليا السلطة فى دولتين تزعمان أنهما مهد ميلاد النظم الليبرالية فى العصر الحديث، وتتراوح نظم حكم الزعامات القوية الأخرى بين هذين القطبين. تملك هذه الزعامات سجلا واضحا من الإنجازات يأتى فى مقدمته الاستقرار فى السلطة أو احتمال العودة لها بعد هزيمة انتخابية أو سياسية يرونها مؤقتة كما فى حالة كل من دونالد ترامب وبوريس جونسون. طبعا هناك قائمة طويلة تشمل ٤٩ قائدا فى مختلف قارات العالم وبعضهم على قائمة دولهم منذ ما يقرب من أربعة عقود فى كل من الكاميرون وأوغندا، ولكن اخترت أبرزهم على الصعيد الدولى. أطولهم عمرا فى السلطة فلاديمير بوتين الذى ظل رئيسا للدولة أو للوزراء لمدة ثلاث وعشرين سنة، يليه مباشرة أردوغان الذى تقلب بين هذين المنصبين فى تركيا لمدة ١٩ سنة، ويقترب من ذلك أوربان بخمس عشرة سنة بينما ظل نتنياهو رئيسا لوزراء إسرائيل ثلاث عشرة سنة، ويشترك كل من زعيمى الصين وكوريا الشمالية فى كونهما يتصدران المنصب الأول فى بلديهما لمدة إحدى عشرة سنة.
ولكن الاستقرار فى السلطة كان ممكنا بالنسبة لمعظم هؤلاء بفضل الشعبية العارمة التى يتمتعون بها، وذلك فى حدود ما يتاح من معلومات، قد يكون مشكوكا فيها فى حالة الدول التى لا تتمتع بشروط الانتخابات الحرة والمفتوحة للجميع مثل الصين وروسيا الاتحادية وكوريا الشمالية. ولكن هناك دلائل أخرى على شعبية رؤسائها بالنظر لإنجازات غير مسبوقة بالمقارنة بما كان سائدا قبل وصولهم للسلطة. وفضلا عن الاستقرار الداخلى الذى حققوه، هناك النجاح البارز لهم ولغيرهم على صعيد السياسة الخارجية. يتحدى أربع منهم محاولة الولايات المتحدة فرض هيمنتها على النظام الدولى، وهم رؤساء الصين وروسيا وكوريا الشمالية وتركيا. ووقف أوربان معارضا سياسات الاتحاد الأوروبى فى مجال الهجرة وحقوق الإنسان، ووسع نتنياهو علاقات إسرائيل بكل القوى الكبرى فى العالم وفتح المجال لتطبيع العلاقات مع أربع من الدول العربية، فضلا عن تلك التى ارتبطت بإسرائيل بمعاهدات سلام، ونجح ناريندرا مودى فى إقامة علاقات متوازنة مع الدول الثلاث التى تتربع على قمة النظام الدولى. وتمكن بوريس جونسون من إقناع الشعب البريطانى بالخروج من الاتحاد الأوروبى بعد مفاوضات ملائمة لبريطانيا عندما تحترم بنودها. واستفاد أردوغان من كل الفرص المتاحة على الصعيدين الإقليمى والدولى ليوسع نفوذ تركيا ويحافظ فى نفس الوقت على علاقات وثيقة مع أطراف متصارعة على مستوى العالم.
من ناحية أخرى، لم يقترن الاستقرار السياسى والنجاح فى العلاقات الدولية فى كل الحالات بتحسن الأوضاع الاقتصادية للمواطنين أو استمرار هذا التحسن. تردى هذه الأوضاع واضح فى حالات كوريا الشمالية وروسيا وبدرجة أقل تركيا، كما أن الفوائد التى وعد بوريس جونسون بتحقيقها لشعبه نتيجة الخروج من الاتحاد الأوروبى لم ير المواطنات والمواطنون البريطانيون دليلا عليها، بل على العكس أصبحوا يعانون من تعقيدات لم يتوقعوها فى علاقاتهم بدول الاتحاد. أظهر دونالد ترامب استخفافا بالأزمات التى واجهها الشعب الأمريكى أمام جائحة كورونا، واكتسب سخط نصف المجتمع الأمريكى بسبب سياساته المعادية للمرأة وللأمريكيين والأمريكيات من أصول غير أوروبية. الاستثناء الأبرز بين كل هذه الزعامات هو الرئيس الصينى الذى تواصل بلاده صعودها إلى قمة النظام العالمى ولا يعانى مواطنوه أزمات حادة فى تردى ظروف حياتهم وتضييق متزايد على حرياتهم رغم قيود مؤقتة فرضتها جائحة كورونا واضطهاد للأقليات فى التبت والإيجور المسلمين.
ولا يبدو أن هذه الصعوبات التى يعرفها بعضهم تهز كثيرا شعبيتهم وتأييد قطاع كبير من المواطنين لهم، ويرجع ذلك لتبنيهم جميعا خطابا شعبويا معاديا لمن تعتبره أغلبية من مواطنيهم «الآخر» والذى قد يكون أوروبا فى حالة بريطانيا، أو الملونين المهاجرين فى الولايات المتحدة أو أوروبا والمسلمين فى المجر أو المسلمين فى الهند أو ما يسميه نتانياهو بـ«الإرهاب الإسلامى» فى إسرائيل.
ويتفق هذا العداء للآخر مع استهانة كل هؤلاء الزعماء بقيم حقوق الإنسان بدعوتها للمساواة بين جميع البشر واحترام حقوقهم فى الكرامة وحرياتهم فى التنقل والاعتقاد والرأى والتنظيم. لذلك تعرف فترات حكمهم انتهاكا واسعا لحقوق الإنسان يتفاوت من دولة لأخرى بحسب تقاليدها السياسية واستقرار قيم حقوق الإنسان فيها. بل ويصل الأمر ببعضهم إلى الضيق حتى بالمؤسسات التى توارثتها بلادهم منذ قرون، بل وبنصوص القانون التى أقسموا على احترامها. دونالد ترامب ألب أنصاره على الكونجرس الأمريكى، ومارس ضغوطا على كبار الموظفين فى بعض الولايات لحملهم على تزوير الانتخابات التى خسرها، وبوريس جونسون كذب صراحة على مجلس العموم البريطانى بالنسبة لبعض ممارساته الشخصية وحاول التغطية على سلوك غير أخلاقى لواحد من معاونيه، وتلاحق اتهامات بالرشوة وسوء استغلال النفوذ بنيامين نتنياهو.

هل يصلح نموذج الرجل القوى للوطن العربى؟
لا تكتفى بعض الدول التى حكمها بعض هؤلاء الزعماء بانتقاد نموذج الحكم الديمقراطى داخل بلادهم، ولكن بعضا منها يدعو إلى نظام حكمها باعتباره هو البديل الأنسب لكل دول العالم. هذا واضح فى الخطابات الأخيرة للرئيس بوتين، كما أن الكتابات الصينية تطرح النموذج الصينى باعتباره النموذج الذى أثبت تفوقه على النموذج الليبرالى فى ضمان الوفاء بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين والمواطنات وتحقيق الاستقرار السياسى، وربما يكون ذلك واحدا من الأسباب التى تدعو بعض كتاب الصحف فى مصر إلى المناداة بنبذ الديمقراطية والتوقف عن ترديد مقولات حقوق الإنسان كما لو أن ذلك هو الذى سيخرج مصر والدول العربية من أزماتها الداخلية والخارجية.
والواقع أن مثل هذه الدعوات تخلط بين نموذج حكم الرجل القوى والنجاح فى تحقيق الاستقرار السياسى ودفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فليس هناك دليل على أن هذا النموذج يكفل استمرار التنمية أو تحقيق الاستقرار. حالة كوريا الشمالية التى يعانى مواطنوها ومواطناتها المجاعة والتى تعتمد على جارتها كوريا الجنوبية والمجتمع الدولى فى إخراجها من أزمتها دليل على ذلك، وتحول تركيا فى ظل حكم أردوغان من نموذج ناجح فى التنمية إلى تقلبات حادة فى سعر عملتها وعجز كبير فى موازنتها الداخلية دليل آخر. وحتى النجاح المؤقت فى السياسة الخارجية يعقبه ازدياد التوتر مع الدول المجاورة وقوى كبرى فى النظام الدولى كما تشهد على ذلك حالة روسيا الاتحادية بعد غزوها لأوكرانيا.
كما أنه ليس هناك دليل على أن النجاح فى التنمية يرتبط بالضرورة بحكم الرجل القوى. إنجاز الصين فى مجال التنمية سابق على حكم شى جين بينج، وما كان من الممكن أن يستمر هذا الإنجاز لولا أنه استند إلى دولة قوية تستقل فى اتخاذ قراراتها وتضمن إنفاذها وتتمتع فى نفس الوقت بمساندة شعبها. ولم يكن وصف «الرجل القوى» ينطبق على من حكموا الصين قبل تولى الرئيس شى المنصب الأعلى فيها.
من يدعون إلى حكم الرجل القوى الذى يتجاهل حقوق الإنسان ويركز السلطات فى يده ربما نسوا أن الدول العربية عرفت هذا النموذج من قبل: ألم يكن صدام حسين ومعمر القذافى وزين بن على بل وحتى حافظ الأسد هم التعبير العربى عن حكم «الرجل القوى»؟ أوليست الأزمات التى تعرفها دولهم هى النتيجة الطبيعية والحتمية لنموذج حكمهم؟
بدلا من الدعوة بدون تبصر لقيام حكم «الرجل القوى» فى الوطن العربى، لماذا لا نجتهد فى ابتكار الأساليب والنظم التى تفتح الباب أمام ظهور الدولة القوية فى الوطن العربي؟ دولة المؤسسات ذات السلطات التى لا تتعدى منها واحدة على أخرى، والتى تسترشد بشروط الحكم الرشيد الذى يقوم على سيادة القانون وعدم تركيز السلطات، والمشاركة الشعبية والمساءلة والشفافية؟ أليست مثل هذه الدولة هى الضمان الحقيقى للاستقرار والتنمية المتوازنة واحترام كرامة البشر؟

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
التعليقات