عـن العصا - داليا شمس - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 2:10 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عـن العصا

نشر فى : السبت 31 ديسمبر 2011 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 31 ديسمبر 2011 - 8:00 ص

ضرب عشوائى لا يعرف حدودا ولا قيودا، ذلك الذى رأيناه ينهال على أجساد المتظاهرين فى الفترة الأخيرة، بواسطة عصى أكسبها بعض الجنود عنفا غير مبرر، ربما استوحوا منطقهم من تصريحات سابقة لمصدر عسكرى اسرائيلى قال فيها إن الضرب أكثر فاعلية من الاعتقال، فالمعتقلون الفلسطينيون يتم إطلاق سراحهم خلال 18 يوما فيواصلون رمى الجنود بالحجارة، ولكن إذا قامت القوات بكسر أيديهم فلن يستطيعوا رمى الحجارة لمدة شهر ونصف... مجرد محاولة ساذجة، من ناحيتى، لفهم منطق الهراوات الذى استعصى علىّ تبرير ما اتسم به من عنف وغل، إذ لم نتعود هكذا من قبل أن تصبح العصا أو الهراوة أو النبوت أو الشومة ــ سمها كما شئت ــ جزءا من الحياة اليومية.. تباع بأنواعها وأشكالها المختلفة على النواصى وفى الميادين وحتى على الطريق الصحراوى، كما الخضراوات والفواكه الطازجة التى قطفت لتوها من المزارع المتتالية. المشهد جد غريب، فالكثيرون قرروا الاحتماء بأول الأسلحة التى اخترعها الإنسان ولاذوا بطرق بدائية للدفاع عن النفس، والعسكر قرروا بدورهم العمل بالمثل القائل: «العصا لمن عصى». وبالتالى أصبح من الطبيعى أن يسير النعش وراء النعش، وأن يعلن عن ميت بين ساعة وأخرى، وأن يتلمس بعض الشباب طريقهم بواسطة العصا فى ظلامهم الأبدى بعد أن فقدوا نور أعينهم فى التحرير، وأن تتصاعد جعجعة النبابيت على الأقل مرتين فى الأسبوع. هل رجعنا لزمن الفتوات والحرافيش الذى وصفه نجيب محفوظ، عندما كان الفتوة يمثل الشرطة الشعبية داخل الأحياء وحارس أبواب القاهرة فى القرن التاسع عشر وحتى أربعينيات القرن الماضى، ثم اختفى مع انتشار أقسام البوليس؟ قطعا هناك فرق، فحتى وقتها كان للفتونة «النقية» أصولها (دون رغبة منى فى إكسابها مثالية ليست فيها)، يروى مثلا نجيب محفوظ فى قصة «فتوة العطوف» كيف لجأ رجالات السياسة لأحد الفتوات وساوموه على شراء أصوات أنصاره وأتباعه فأخذ منهم النقود ثم ذهب هو وصحبه لإعطاء أصواتهم لمرشحى سعد زغلول.

 

تداعت فى ذهنى التأملات حول العصا والفروقات بين من يمسكها وفى أى إطار، بما فى ذلك رمزية العصا وما تحمله من معانى قمع وعصيان، سلطة وحكمة، إتكاء وعِشرة، بل وذكورة أحيانا.. إذ كان الرجال فى أوروبا حتى نهاية القرن التاسع عشر يستنكرون على النساء حمل العصا، بينما كانت بنات الحارة فى مصر تتتراقصن بالنبابيت لانتصار فتوة الحى على غريمه، بعد أن كانت الزفة تفور بضربات النبابيت نفسها.

 

قد تكون عصا موسى هى الأشهر عندما تحولت إلى ثعبان كبير التهم ثعابين سحرة فرعون، وبها فلق البحر ليعبر إلى سيناء بينما غرق فرعون وجيشه، لكننا لسنا فى زمن المعجزات.. وكان للنبى موسى أيضا فى عصاه مآرب أخرى «وظيفية»، إذ استعملها كأى أعرابى ليهش بها على غنمه ويتوكأ عليها...تماما كسيدنا سليمان الحكيم أو حتى الكاتب توفيق الحكيم.. فكلاهما حمل عصاه للنهاية، كابنة من الخشب على حد وصف الأخير. فما بين عامى 1946 و1951 كتب ونشر توفيق الحكيم بعض الأحاديث مع عصاه البسيطة والمصنوعة من الخشب الأبيض، تلك التى لازمته منذ أن عمل وكيلا للنيابة فى مدينة طنطا سنة 1930، وتم تجميع هذه الأحاديث بين ضفتى كتاب بعنوان «عصا الحكيم» ليخلد ذكراها، متحدثا عن شئون الناس والفكر والمجتمع. وقد كان يكن لها من الإعزاز ما لم يجعله يتحدث قط فى كتابه عن سياسة «العصا والجزرة»، لما يوحى به المصطلح من تلاعب وضغط على جميع الأطراف، ونأى بنفسه أن يربط عصاه بمثل هذا السلوك المتبع قديما فى أوروبا لترويض البغال أو الحمير، فإن طاوع الحمار أعطى الجزرة وإن عصى فله العصا، أو أن تربط الجزرة فى نهاية عصا لتتدلى أمام الحمار لكى يستمر فى السير أملا فى الوصول إلى الجزرة.. كان الحكيم شغوفا بالحمير، رحيما بها.. وكذلك كان ممتنا لعصاه التى قاسمته أيامه بحلوها ومرها، ففضل أسلوب الحوار المباشر فى كتابه، ليتفقد أحوال المصريين.

 

تكلم مع عصاه مثلا عن افتقادنا لروح الجماعة وكيف لاحظ هواة كرة القدم أن فى «التيم المصرى» كل فرد يلعب مستقلا عن المجموعة، وتطغى عليه براعته الخاصة فيأتى اللعب مرتجلا، والمصادفة هى التى تقرر النجاح أو الفشل.. وقالت له العصا فى موضع آخر: «يخيل إلى أن فى مصر خبيرا عبقريا، مهمته الدقيقة: أن يضع كل شىء فى غير محله»، مفسرة لنوع من النبوغ المصرى يستحيل معه وضع الشخص المناسب فى المكان المناسب... وواضح أن دوام الحال ليس دائما من المحال، فعندما يبذل العسكرى فى الشارع مجهودا عضليا مضنيا ليشير بعصاه البرتقالية للسيارات كى تتقدم، فى حين لا مجال لذلك لأن السير متوقف تماما، أتساءل: إلى متى؟.. وأتذكر عصا الحكيم وما قالته منذ الخمسينيات.

التعليقات