في وسط كل الضجيج والصخب السياسي، تبقى المشكلات التي تؤثر عليك بشكل يومي هي الأكثر حضوراً في ذهنك. وبرغم كل الكلمات المقعرة عن النضال، تبقي النضالات الصغيرة الشخصية هي الأقرب صلة بالشخص. هذا ما أشعر به دائما، أشعر أن معاركي الصغيرة هي التي ترسم تفاصيل يومي.
ولهذا قررت أن أقص عليكم تفاصيل يوم من أيامي. في العادة يبدأ يومي بالذهاب إلى العمل وفي الطريق عادة ما أقابل من يستعيذ بالله من اليوم الأسود فور رؤيته لي. علي أن أشير إلى أني سوداء البشرة وأضف إلى ذلك خلقت في جسد أنثى، ولهذا كثيرا ما أعاني. وأستكمل طريقي لأجد من يتعامل معي علي أني سائحة أفريقية أو أمريكية سوداء بسبب تسريحة شعري. وتلاحقني التعليقات التي تشير إلى لوني وتحمل في طياتها تحرش جنسي.
لم اعتد علي الأمر- ولا أظنني سأعتاده- رغم أنني أعيش مع هذه التفاصيل طوال عمري، وأجد كل تعليق أكثر إيلاما من التعليق الذي سبقه. منذ الطفولة وكنت أواجه أسئلة زملائي في الفصل الذين يستعجبون أنني سوداء، وكنت أرد ببساطة أن أمي وأبي سود أيضا، وأنا فقط أشبههم، وأن أبناء عمومتي وأبناء خؤولتي أيضا سود.
لم أكن أعي أني نوبية بعد، وعندما أدركت الهوية وما تحمله من تاريخ مصحوب بالألم، أضيفت معاناة لقائمة معاناتي. أتذكر أن السبة المفضلة التي كان يناديني بها الأطفال هي يا "سودة"، في البداية لم أكن أشعر أنها سبة وكنت أقول وما العيب في ذلك. إلا أن رد فعلي تطور مع الوقت وأصبح أكثر عنفا وحدة.
دوما ما كنت أتعامل مع الإساءات العنصرية أنها نتيجة جهل وصور نمطية سلبية يعززها الإعلام، حيث لا يظهر الأسود إلا في صورة العبد أو الخادم وترتبط به صفات سلبية دوما. للأسف نحن نحيا في مجتمع لا يرانا و لا يعترف أننا نشاركه هذا الوطن. كم أستاء عندما أطالع الجرائد وأجد إعلاناً يطلب سائق نوبي أمين، ولطالما احترت ما سبب ربط جماعة بشرية كاملة يختلف أفرادها في مؤهلاتهم مع الوظائف الدنيا.
لا يمكنني أن أنسى تلك المحاضرة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، في السنة الرابعة في مادة السياسة الخارجية، حين قال أحد اقطاب الفكر الجديد في الحزب الوطني المنحل "مش النوبيين دول الناس السود اللي بيطلعوا في الافلام القديمة" ساعتها انعقد لساني ولم أستطع أن أرد عليه بما يستحقه. لم أجد كلمات تعبر عني سوى أن مصر بوتقة صهر.
والآن تبين لي أنها لا تصهر أبناءها لينسجموا بل لتمسخهم وتلك بعض العنصرية التي أواجهها علي يد أبناء وطني للأسف، فالإساءات ليست مقتصرة على المواطنين، ولكن الجهاز الحكومي أيضا.
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو معاناتي في الجوازات اليوم 8 إبريل 2012، قد يعتقد البعض أنني عانيت من سخف البيروقراطية المصرية المتداعية، التي رغم أنها ميكنت فإنها ما زالت غير فعالة وخارج إطار الزمن. إلا أن ما قتلني هو ما تعرضت له اليوم من خطابات عنصرية.
في البداية توجهت إلى المجمع لاستخراج جواز سفر وعند كل مرة سألت فيها عسكري أو ضابط أين اتوجه لاستخراج الجواز كان الجميع يشيرون أن تجديد الإقامة في الأدوار العليا مفترضين أني لا أنتمي لمصر بسبب لوني.. وعند كل مرة أسأل أين شباك تقديم مستندات الجواز.
كان الجواب السفيق "وهوا انت مصرية أصلا" وعند تكرار السؤال للمرة الخامسة أو السادسة صحت غاضبة، وهوا يعني لو انا مش مصرية ها اجي اطلع باسبور من هنا ليه اصلا؟؟، وكان الرد مصحوبا بالوجوم بسبب حدتي، واستكمل العسكري قائلا "افتكرتك معكي جنسية تانية " محاولا تصليح موقفه.
وحتى تزداد الطينة بلة هالتني ورقة معلقة في الجوازات أنه لا يجوز للأم أن تستلم جوازات أطفالها، إلا بشهادة الميلاد وكأنها ليست ولية على أطفالها. فجعت وشعرت بالإهانة كامرأة وكسوداء.
صراحة ضقت ذرعا من شعب اسمر يتعنصر علي السود، بأي منطق شعب يعاني من عنصرية بسبب كونه عربي وشرق أوسطي، يمارس عنصرية علي من هم أغمق منه لونا ضقت ذرعا ولا يمكنني أن انسى كل السخافات التي مررت بها، والحكايات التي استمعت إليها من نظرائي "السود".
لا يمكنني أن أنسى تفاصيل قد تبدو للكثيرين عادية، كم أستاء عندما أجد سيدات نوبيات في وسائل المواصلات يتحدثن النوبية ويتهامس من حولهن "برابرة"، حتي في المقاهي الشاي علي الطريقة النوبية هو الشاي " البربري". لا يمكنني أن أنسى عدم تعاطف الكثير من المصريين مع ضحايا مذبحة مصطفى محمود في 2005 لأنهم "سود وريحتهم وحشة ووسخوا المهندسين".
يسكنني العجب والضيق من شعب يدعي أنه متكافل وهو لا يحترم المختلف، أيا كان سبب اختلافه، فإذا لم تكن رجلا أبيض مسلم تقطن القاهرة، فلتتحمل الآلام التي ستلاحقك طول حياتك داخل حدود هذا الوطن. كنت أعتقد أن جمال مصر يكمن في تعدد ألوانها وكنت أشبه مصر بالفسيفساء الجميلة الذي تسكن فيه الألوان المختلفة جنبا إلى جنبا في تناغم، إلا أن البعض لا يري التنوع ثراء، وينفي الآخر ولا يعترف بوجوده. وعلي أن أعترف أن عنصريتكم تخلق عنصرية مضادة، عندما تسمع نوبي غاضبا يصيح فيك "جورباتي" اعلم أنك من أوصلته إلى هذا الدرجة بسبب العسف الذي يلاقيه يوميا. فهل هذا ما نسعي إليه. هل نسعي إلى مجتمع، تنغلق كل فئة علي نفسها وترفض وتنبذ الآخر. هل هذا هو الوطن الحلم؟.
إذا كنت يا مصر وطنا لي، فيجب على أبنائك وعلي من يديروا شئونك أن يحترموني فقط لكوني مصرية، وألا يروا إلا مصريتي بغض النظر عن ديني أو جنسي أو لوني أو عرقيتي. فيا تري يا مصر هل أنعم فيك ببعض الاحترام، هذا غاية ما أطلب. علي أن أعترف أنني لم أعد أحتمل صراعاتي الصغيرة، وأنها لا ترسم تفاصيل يومي فحسب بل تنغص أيامي وتحفر أخاديد من الألم في قلبي.