قبل نحو 15 قرنا من الزمن، قاد النبي محمد -صل الله عليه وسلم- رسالة الإسلام من قلب شبه الجزيرة العربية، وبدأ بلاغه بالأقربين من أهله وأبناء قبيلته ومجتمعه، ثم كانت الهجرة للمدينة المنورة بمثابة توسع لرسالة الإسلام، وتأسيس دولته بمكونات فكرية وحضارية.
ومع تمدد الدولة الإسلامية، زاد التأثر والتفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى، ووثقت الكتابات والمراجع التاريخية الأحداث التي جرت في تلك الحقب، وتناولها المفكرين بالتحليل، ومن بينهم كان الكاتب أحمد أمين، حين أصدر كتابه "فجر الإسلام"، حيث يتعقب فيها الحياة العقلية منذ صدور الإسلام حتى نهاية الدولة الأموية، وفيما يمثل الجزء الثاني لفجر الإسلام، كان تناول تاريخ الدولة العباسية، والتي تمثلت بالنسبة لأمين بأنها "ضحى الإسلام"، ونتناول أجزاء منه في حلقات مسلسلة على مدار أيام الثلث الثاني من شهر رمضان المبارك.
الحقة الأولى..
يصف أحمد أمين "العصر العباسي"، أنه عصر له لون علمي خاص، كما أن له لون في السياسة والأدب، وامتاز بغلبة العنصر الفارسي، وبحرية الفكر إلى حد ما، إلى جانب تلون الأدب من شعر ونثر لونًا احتذى على كر الدهور، واختلاف العصور، كما امتاز بتحويل ما باللسان العربي إلى قيد في الدفاتر وتسجيل في الكتب، وما باللسان الأجنبي إلى لغة العرب، وهو في كل هذا يخالف العصور قبله والعصور بعده.
• العرب
يبدأ امين، "نستطيع بعد ذلك أن نقول إن المملكة الإسلامية في هذا العصر كانت مكونة من أمم مختلفة، فقد كان من أجزائها المغرب حينًا، ومصر، والشام، وجزيرة العرب، والعراق، وفارس، وما وراء النهر، وكانت هذه الأمم تختلف فيما بينها كلّ الاختلافات التي أبنَّاها، وكلها خضعت للحكم الإسلامي، وتكون منها جميعًا مملكة واحدة"، وكان لكل أمة من هذه الأمم مزايا وصفات عرفت بها، فاشتهر العرب مثلا بالقدرة على الشعر، حتى قال أحمد بن أبي داود: "ليس أحد مِن العربِ إلًّا وهو يقْدرِ عَلى قول الشِّعرِ، طبعًا ركِّب فِيهِم، قَلِّ أو كُثر".
• السند
واشتهر أهل السند بالصيرفة "ما يشبه أعمال البنوك"، والعلم بالعقاقير، ويقول الجاحظ: "إن السند لهم طبيعة في الصرف، لا تَرى بالبصرةِ صيرفيا إلا وصاحِب كِيسة سِندِي"، واشترى محمد بن السكنِ أبا رواحٍ السندي، فكسب له المال العظيم، وقلَّ صيدلاني عندنا، إلا وله غلَام سندي، فبَلغوا أيضًا في الخبرة، والمعرفة بالعقاقير، وفي صحة المعاملة، واجتلاب الحرفاء مبلغًا حسنًا.
• العراق
وكانوا يختلفون في الأهواء، والميول السياسية، ويوضح ذلك ما رواه ابن قتيبة: "قال محمد بن علي بن عبدالله بن عباس لرجال الدعوة حين اختارهم للدعوة"، وأراد توجيههم: أما الكوفة وسوادها، فهناك شِيعة علي بن أبي طالب، وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف، وتقول: كن عبدالله المقتولَ، ولا تكن عبدالله القاتلَ.
وأما الجزيرة فحروريةٌ مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى، وأما أهل الشام، فلا يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بنِي مروان، عداوة لنا راسِخة وجهلًا متراكمًا.
وأما أهل مكة والمدينة، فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان فإن هناك العدد الكثير، والجلد الظاهِر، وصدورًا سليمة، وقلوبًا فارغة، لم تَتقسمها الأهواء، ولم تَتوزعها النِّحلُ، ولم تشْغَلها دِيانة، ولم يتقدم فيها فساد، وليست لهم اليوم هِمم العربِ، ولا فيهم كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالفِ القبائلِ، وعصبية العشائر، ولم يزالوا يذلون، ويمتهنون، ويظلمون ويكظِمون، ويؤملون الدول، وهم جند لهم أجسام وأبدان، ومناكب وكواهل، وهامات ولحي وشوارِب، وأصوات هائلة، ولغات فخمٌة تخرج من أفواهٍ منْكرةٍ، بحسب ما جاء بكتاب عيون الأخبار.
وغدا نلتقي بحلقة جديدة..