زكى سالم يكتب عن أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 12:13 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زكى سالم يكتب عن أحلام فترة النقاهة.. الأحلام الأخيرة

زكي سالم و نجيب محفوظ
زكي سالم و نجيب محفوظ

نشر في: السبت 2 يناير 2016 - 10:11 ص | آخر تحديث: السبت 2 يناير 2016 - 10:11 ص

• الأحلام من أروع إبداعات فن القصة القصيرة فى أدبنا العربى بل وفى تاريخ الأدب العالمى كله

• والدة نجيب محفوظ ذات تأثير كبير عليه.. ظهر فى أحلامه

• أحلام هذا العبقرى ليست بأضغاث أحلام وإنما هى أحلام حق تكشف خفايا الماضى وتستشرف المستقبل.

• الراوى يتنقل بين دنيا الاحياء وعالم الأموات دون أن يثير العجب

قلت لأستاذنا العظيم نجيب محفوظ إن كل ما كتـبه قـبـل «أحـلام فترة النقاهة» يتسـم بالوضوح التام، فأى قارئ، مهما كانت ثقافته محدودة، يمكنه أن يستمتع بفن مبدعنا الأكبر، ويتعلم من أدبه، ومن ثـم يفهم أشياء كثـيرة من رواياته وقصصه القصيرة، ولكن الأمر يختلف مع هذه الأحـلام المبهرة، فثمة غموض موحٍ أحيانا، وملغز أحيانا أخرى، ولعل من يقرأ بشغف يتـساءل بصدق عن حقيقة المغزى المقصود؟!

وكان رد أستاذى ببساطته المعهودة: «هذه هى طبيعة الأحلام»، ففى حياتنا اليومية قد نعجز بالنهار عن تفسير معنى أحلام رأيناها فى الليل، لكنى أحب أن أؤكد لك – يا صديقى القارئ – أن أحلام هذا العبقرى ليست بأضغاث أحلام، وإنما هى أحلام حـق تكشف النقاب بلطف عن خفايا الماضى والحاضر، وتستشرف المستقبل ببصيرة ثاقبة، ومن ثم قد يتمكن، أناس ممن للرؤيا يعبرون، من فهم ما وراء كلماته من معانٍ وأسـرار.

وعلى أن أعترف، بادئ ذى بدء، أننى، مهما حصلت من علم، وبذلت من جهد، سأبقى تلميذا لأستاذى الحبيب، وما أقدمه من اجتهاد ما هو إلا محاولة للفهم، قد تصيب، وقد تخطئ، ومن ثم سيبقى متسعا للآخرين، وخصوصا للأجيال القادمة لتقديم إضافاتهم المتميزة، من خلال قدراتهم على سبر أغوار أحلام مبدعنا الأشهر، وفهم مختلف جوانب نصوص معجزة تعد من أروع إبداعات فن القصة القصيرة فى أدبنا العربى، بل وفى تاريخ الأدب العالمى كلـه.

•••

ولنبدأ بنفس ترتيب الأحلام المنشورة فى كتاب «الأحلام الأخيرة»، ففى حلم رقم (200): «وجدتنى فى حالة تأهب للصراع مع عدو شرس وتاقت نفسى إلى شىء من الراحـة فصعدت إلى الدور الأعلى حيث رأيت محمد على الكبير يتلقى الأنباء وينتفخ عظمة ولكنه جن جنونا».
وكأنما الراوى يمثل الشعب المصرى، وهو يصارع الفقر والجهل والمرض، بينما الحاكم الفرد يجلس وحده فوق هامات البشر، حيث ينتفخ خيلاء وعظمة، كفرعون يؤله المنافقون من حوله، حتى يجن جنونا، ويسوق مصر إلى كوارث، ويدفع الشعب الغلبان ثمن سكوته على نظم حكم ديكتاتورية.

ولنتذكر كلمات أستاذنا الجليل فى شهادته الكاشفة لمسار تاريخنا كله، فى عمله الفريد «أمام العرش»، حيث يقول تحتمس الثالث لمحمد على: «إدراكك رغم ذكائك كان ناقصا، لم تدرك أبعاد الموقف الدولى جيدا فتحديته وأنت لا تدرى، وعرضت نفسك لقوة لا قبل لك بها».

ويقول أبنوم لمحمد على: «لم يكن إيمانك بالشعب كاملا ولا حبك له بالقدر الذى يجعلك توظف جهدك الحقيقى لإحيائه ودعمه، استخدمت الفلاح فى سبيل الأرض والدولة وكان الواجب أن توجه كل مؤسسة لخدمة الشعب».

وهكذا نرى أن كلمات هذه الحلم المكثف تلخص مشكلة مصر عبر العصور، فالحاكم الجديد، يتحول بسرعة إلى فرعون جديد، ينتفخ عظمة حتى يجن جنونا، فيسخر كل إمكانات الدولة من أجل ذاته المتضخمة، وبدلا من أن توجه جهود كل مؤسسات الدولة لخدمة المواطن، يسحق الإنسان الفرد من أجل عظمة الحاكم الفرد!

ولعلى أضيف هنا شيئا أعلم أنه سيثير خلافا بين القراء الأعزاء، ألا وهو موقف شعبنا الأبى، صاحب ثورة يناير العظيمة، من النظم الديكتاتورية التى تعاقبت علينا، إذ أرى أن أحرار مصر لن يسمحوا أبدا بعودة نظام الفرعون مرة أخرى، مهما كانت التضحيات هائلة، ولذلك سيكتب التاريخ فى العقود الأولى من هذه الألفية، نهاية عصر الفراعنة فى مصر المحروسـة.

•••

وفى حلم (201): «رأيتنى أذهب إلى مسكن صديقى المرحوم (أ) ودعوته للذهاب معى إلى القهوة، فاعتذر لأن اليوم ستزوج أخته زينب، فذهبت إلى المقهى وأخبرتهم وكنا نتعجب لشدة قبح زينب، وإذا بنا نرى موكب العروس قادما وهى محاطة بالنسوة والجميع متشحات بالسواد من الرءوس إلى الأقدام ويسرن بخطوات منتظمة عسكرية».

ها هو الراوى يتنقل بيسر بين دنيا الأحياء وعالم الأموات، حتى إنه يدعو صديقه الراحل للذهاب معه إلى المقهى، لكنه يعتذر لأن اليوم عرس أخته زينب، وكل هذا لا يثير العجب، وإنما مصدر العجب هو قبح العروس، فما سبب هذا القبح العجيب؟!

الإجابة تجدها واضحة فى السطر التالى، فهذا السواد الذى تتشح به النسوة فى يوم العرس، لا يعبر عن شعب مصر المحب للحياة والجمال، والغناء والبهجة، هذه الهجمة السوداء القاتمة، والقادمة من الصحراء القاحلة، لا تعبر عن روح مصر الجميلة.

أما هذه الخطوات العسكرية المنتظمة، فتضيف المزيد من القبح على صورة الواقع البائس، حين يعسكر المجتمع كله، فإذا بنا بين لونين لا ثالث لهما، إما الأسود، وإما الكاكى، وهذان اللونان لا يعبران عن قلب مصر الأخضر.

وهنا أذكر نكتة قديمة، كانت شائعة جدا، فى فترة زمنية من الخمسينيات والستينيات، إذ يحكيها شعبنا الساخر على لسان معشوقته «الست أم كلثوم»، إذ تقدم كوكب الشرق نصيحة للشباب الصغير أن يدخلوا إلى «الكلية الحربية»، وبعد أن يتخرجوا فيها يعملون فى أى وظيفة يريدونها، فمنهم الرئيس، والوزير، والسفير، والمحافظ، وعضو البرلمان، وكل المراكز القيادية فى الدولة!

•••

وفى حلم رقم (202): «وجدتنى فى بيت ريفى أغوص فى الظلمة والصمت ولا صوت إلا نباح كلبتى الجميلة المتقطع، وإذا بطلق نارى يخترق الليل والصمت، فذهب صاحبى وبعد قليل رجع ليقول بصوت أسيف: قتلوا كلبتك الجميلة، فانتابنى حزن لحد البكاء وقلت: أهم لصوص؟ فأجاب: أو قوم يعبثون».

انظر إلى الكلمات القليلة التى يقولها، والكلمات الكثيرة المبثوثة بين السطور ! ففى بيت ريفى، أى فى مكان بعيد تماما عن المدنية الحديثة، وقيم الحضارة الراقية، وهذا لا يعنى الريف بحد ذاته، بقدر ما يعنى المجتمع غير المتحضر، الذى يغوص فى ظلمة الجهل، وصمت التخلف الناتج عن الامتناع عن تذوق موسيقى الحضارات المتنوعة، وعدم الانفتاح على عالم الفنون والآداب الثرى بكل مجالاته الرحبة، ومن ثم يهيئنا هذا الجو الكئيب لصوت طلق نارى يخترق الليل والصمت، ويقتل الكائن الجميل الوحيد فى هذا العالم القبيح، فمن طبيعة الأمور أن يعتدى القبح على الجمال، ويقتل من يعيشون فى الظلام معانى الأنس والحب والوفاء.

وليس من الضرورى أن يكون الهدف السرقة، فهؤلاء أسوأ من اللصوص، لأنهم يعبثون بمعانٍ سامية كالحب والسلام، والرحمة والجمال.

إن مجتمع يسوده الظلم والظلام، ليدعو الإنسان السوى إلى الحزن إلى حد البكاء على قتل الأرواح البريئة، وتراجع قيم الحق والخير والجـمال، واختفاء مبادئ العدل وسيادة القانون، واستباحة الحرمات، وانتهاك حقوق الإنـسان وكرامتـه.

•••

وفى حلم رقم (203): «وجدتنى فى مكان غريب يبعث منظره الأسى وإذا بحبيبتى (ب) قادمة مكللة بشيخوختها فتولانى شعور كئيب بأننى لن أراها مرة أخرى».

إنه مكان غريب عن عالم الأحياء، فهو مخصص للراحلين من عالمنا إلى العالم الآخر، هذا المكان الذى يثير فينا الشعور بالأسى على فراق الأحبة، وفى هذا الموقع الغريب تظهر حبيبة الراوى، وهى قادمة مكللة بشيخوختها، مما يؤكد أن الحبيب يعشق صاحبة هذه الروح الفاتنة، والتى لم يأخذ الزمن من جمالها، وإنما أضاف لها نورا وبهاء يضئ ما حولها، وهذا يعنى أن الراوى يؤمن حقا بأن الجمال الحقيقى هو جـمال الروح.

ويبقى فى وجدان قارئ هذا الحلم شعور عميق بالأسى على الفراق بين الأحبة، فهو المعنى الغالب على هذا الحلم الشاعرى، فكما قال شاعرنا الجميل إبراهيم ناجى، فى رائعته «الأطلال»: «وإذا الدنـيا كما نعرفها.. وإذا الأحـباب كـلٌ فى طريق».

إذ إن الفراق هو المصير المحتوم بين الأحبة، فى هذه الحياة الدنيا، أما من يؤمنون بعالم الروح فلهم لقاءات مع كـل الأحـبة، فى عالم الخلد عند مليك مقتدر.

•••

وفى حلم رقم (204): «رأيتنى أتجاوز الأربعين وأداعب وردة بيضاء وهى تستجيب لعواطفى بل وتشجعنى ولكننى لفارق السن أتردد وأتمادى فى التردد حتى تهجرنى وحيدا مع الزمن».

ها هو حلم شديد البساطة، لكنه يدور حول قانون من أهم قوانين الوجود الإنسانى فى كون لا يتوقف عن الحركة والاتساع إلى ما لا نهاية ! إذ يدفعنا التأمل فى هذا الحلم إلى إدراك معنى حركة الزمن فى حياة البشر، وقيمة العواطف الصادقة، وحماقة التمادى فى التردد، والكوارث المترتبة على الخوف من اتخاذ القرار السليم فى الوقت المناسب.

وهنا نرى مبدعنا الملهم وهو يشبه المرأة (الحبيبة) بوردة بيضاء، تعبر عن الجمال والنقاء، والرقة والطيبة، ثم هى تستجيب للعاطفة الحقيقية، وتملك الشجاعة على تجاوز فارق السن بينها وبين الحبيب، كما تملك أيضا القدرة على الحسم، والمقدرة على اتخاذ القرار الصعب، حين تكتشف تردد الرجل، وضعف عزيمته، ونكوصه عن اتخاذ القرار الواجب، فهى صاحبة رؤية ثاقبة، إذ تكتشف حقيقته، فتتركه يقاسى من آلام الوحدة القاتلة وسط أنغام الرحيل المرتقب.

وقد أشار أستاذنا فى حلم آخر يتناول ذات الموضوع، وهو حلم رقم (224)، أشار إلى بيت من الشعر القديم، للشاعر العباسى سلم الخاسر، إذ يقول: «من راقب الناس مات غـما.. وفاز باللـذة الجـسور».

وفى كتاب «الأغانى» للأصفهانى، يحكى أن أصل هذا البيت من الشعر جاء فى قصيدة لبشار بن برد، كما يلى:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته.. وفاز بالطيبات الفاتك اللهج فلما سلخ البيت سلم الخاسر، وسمعه بشار بن برد قال: «ذهب والله بيتى».

فالخلود الأدبى دائما يكون من نصيب الأجمل والأسهل والأحكم، فما ينفع الناس يمكث فى الأرض، هذا هو قانون الخلود، والذى ينطبق على أحلام محفوظ البديعة.

•••

وفى حلم رقم (205): «رأيتنى أدرس القانون إكراما لأبى وأذوب فى الأنغام مرضاة لروحى، وعند ذروة الاختيار تناهى بى العذاب ولكن الروح انتصرت فى الختام».

هذا حلم قصير جدا لكنه يثير قضية فى غاية الأهمية، ففى مجتمعنا المقهور يعانى الغالبية العظمى من الشباب من دراسة علوم، أو مواد لا تتفق مع ميولهم الشخصية، إذ يمنعون منعا من اختيار نوع دراساتهم العليا، التى يقضون فيها سنوات عدة، ثم يعملون باقى حياتهم فى مجالات بعيدة تماما عن اهتماماتهم أو رغباتهم الخاصة، وهذا الأمر شديد القسوة، ويؤدى، فى كثير من الأحيان، إلى صراع نفسى عنيف جدا، كما يمنعهم من التفوق والنبوغ، إذ كيف يتفوق إنسان فى تخصص لا يتفق مع ميوله ؟! وكيف يسعد بنى آدم وهو يعمل عملا لا يحبه؟!

وبطبيعة الفنان، وروحانية المتصوف، ينتصر أستاذنا النبيل فى نهاية هذا الصراع الداخلى لمطالب الروح الخلاقة، حيث تصدح موسيقى الكون بترانيم الأنغام الخالدة.

وهذا ما حدث بالضبط فى حياة نجيب محفوظ الشخصية، صحيح هو الذى اختار بنفسه أن يدرس الفلسفة فى الجامعة بدلا من دراسة الأدب، إلا أنه تعرض لهذا الصراع النفسى العنيف، حين كان لابد له أن يختار بين كتابة القصص، ومواصلة دراسته الفلسـفية، فبعد ما تخرج فى قسم الفلسفة عام 1934، استمر لمدة عامين، يدرس ويحضر لدرجة الماجستير فى الفلسفة الإسلامية، تحت إشراف أستاذه الإمام الأكبر الشيخ مصطفى عبدالرازق.

وأستاذنا طالب نابه، ورسالته للماجستير، كان يمكن أن تقوده إلى التدريس فى الجامعة، ثم يحصل بعد ذلك على درجة الدكتوراه، ويصبح أستاذا للفلسفة فى الجامعة، هذا المستقبل المشرق، تركه محفوظ من أجل كتابة القصص والروايات، فمن كان يمكنه أن يدرك صحة هذا القرار وعظمته؟!

لقد تم اتخاذ هذا القرار الصعب، بعد عامين من الدراسة والبحث والتفكير، فبماذا شعر الأستاذ بعد اتخاذه لهذا القرار المصيرى؟ لقد شـعر بالحرية والاستقلال، حتى إنه كان يقارن – فى داخله ــ بين معاهدة الاستقلال سنة 1936م. التى أعطت مصر نوعا من الاستقلال الصورى، وقراره بالتفرغ للكتابة الأدبية، والتوقف عن إكمال دراسته الفلسفية.

فقد اكتشف الشاب نجيب محفوظ، أنه إذا ما جمع بين العمل كموظف فى الجامعة، واستكمال دراسته العليا للماجستير، فلن يجد الوقت اللازم للكتابـة الأدبية، ولن يجد وقتا يسمح له بقراءة روائع الأدب العالمى.

ومن ثم كان لابد أن يضحى بواحد من الاثنين، إما الأدب، وإما الفلسفة، فاختار التضحية بإكمال دراسته الفلسفية من أجل الاستمرار فى الكتابة الأدبية، وتنمية معارفه العامة، وصقل ثقافته الموسوعية. ومع ذلك لم يتوقف محفوظ قط عن متابعة ما تصدره المطابع من دراسات فلسفية، فاهتمامه بالفلسفة لم يتوقف يوما من أيام حياته المثمرة.

•••

وفى حلم رقم (206): «رأيتنى فى بهو واسع أنيق يجمع فى جانب منه الأهل والأصدقاء، وفى الجانب الآخر يفتح بابا وتخرج منه حبيبتى (ب)، وهى تضحك ويتبعها والدها، فنسيت وقارى وفتحت ذراعى وفتح المأذون الدفتر فشملت الفرحة الجميع، وحضرت أمى فباركت العروس وأحرقت البخور».

ما أروع تعبيره الجميل عن شعوره العميق بالسعادة بوجوده فى مكان رحب وأنيق يجمع الأهل والأحبة، ثم فرح الجميع بزواجه الشرعى من حـبيبته، ومباركة الأهل، وحضور الأصدقاء. إنها من لحظات الفرح النادرة للغاية فى حياة البشر الكادحين فى هذه الدنيا الغرورة.

وثمة إشارة لابد من ملاحظتها فى نهاية هذا الحلم الجميل، ألا وهى حضور أم الراوى، وليس أبيه، ففى حياة نجيب محفوظ علاقة خاصة جدا مع أمه، وقد ظهرت شخصيتها أكثر بكثير من أى شخصية أخرى فى هذه الأحلام الأخيرة، إذ تجلت فى أكثر من عشرين حلما.

وقد توفى والد محفوظ قبل زواجه بسنوات طويلة، أما والدته فقد أخفى عنها خبر زواجه، حتى لا يسبب لها أى شعور بابتعاده عنها، وهى فى سن متقدمة، ومن ثم عبر فى حلمه، عن رغبته الدفينة بمباركة أمه لزواجه من حبيبته، هذه الرغبة الباقية بداخله، فى أعماق اللاوعى، بعد كل هذه العقود من السنين!

إن شخصية والدة نجيب محفوظ لذات تأثير كبير جدا عليه، كما ذكر هو مرات عدة فى حواراته وأحاديثه، فهذا العبقرى الفذ ابن لسيدة مصرية عظيمة، صحيح أنها لم تتعلم القراءة والكتابة، لكنها ربت عبقريا أصبح من أعظم أدباء العالم.

•••

وفى حلم رقم (207): «رأيتنى أسيرا فى شارع طويل وفى بيت على اليسار فتحت نافذة ولاح فيها وجه امرأة سرعان ما تذكرتها على الرغم من أننى لم أرها منذ خمسين سنة وأن جمالها اختفى وراء ستار كثيف من المرض، ولما استيقظت فى اليوم الثانى وجدت الحلم باقيا فى ذاكرتى فعجبت ورحت أتصفح جريدة الصباح فقرأت نعيها فى صفحة الوفيات، فازددت عجبا واعترانى حزن شديد وتساءلت: ترى أينا زار الآخر فى ساعة الوداع؟».

هذه هى روح أستاذى الحبيب، تتجلى فى ثنايا هذا الحلم البديع، فالشارع الطويل يرمز إلى عمره المديد، وهذا البيت يشير إلى مكان لقائه بهذه المرأة الجميلة، والتى توارى جمالها بسبب المرض، وتقدم العمر، والنافذة التى فتحت هى ذاكرة مبدعنا الفائقة، والتى تتذكر هذه الفاتنة بسرعة رغم مرور نصف قرن على آخر لقاء بينهما!

وفجأة ينقلنا إلى اليوم التالى، حيث يسترجع حلم الأمس المحفور بتفاصيله فى وجدانه، وإذا به يقرأ نعيها، فيتساءل عن زيارة روح أحدهما للآخر فى لقاء الوداع الأخير؟!

ويشير هذا الحلم إلى ملمح من فلسفة محفوظ الصوفية، ورؤيته لحقيقة الإنسان كروح خالدة، لا تؤثر فيها مرور السنوات الطوال، ولا يحجبها شىء عن لقاء الأحبة، ولا يعيقها أى شىء حتى الموت ذاتـه، فكما قال فى حـلم رقم (104): «إن المـوت لا يسـتطيع أن يفرق بين الأحـبة». وهذه عقيدة قـوم مصطفين، يحبهم المولى، عز وجل، ويحبونـه.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك