• العبرة بالتنافس وليس بالتخارج
• يجب تسوية "قواعد أرض الملعب" بين القطاعين العام والخاص
• اقترح إنشاء صندوق سيادي لإدارة النقد الأجنبي بالتعاون مع البنك المركزي
يرى الدكتور محمود محيي الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية والمدير التنفيذي السابق بصندوق النقد الدولي، أن الأهم من برنامج الطروحات هو توفير سوق تنافسي ديناميكي، قائلًا: العبرة بالتنافسية بين الشركات بغض النظر عن ملكيتها، ويجب إفساح المجال للقطاع الخاص بعيدًا عن برنامج الطروحات.
وأكد محيي الدين خلال لقائه في "صالون حابي" أن العبرة بالتنافس وليس بالتخارج، فمنذ عام 1961 وحتى الآن لا تزال نفس شركات القطاع العام موجودة، على الرغم من جميع برامج التخارج التي قامت بها الدولة بدءًا من الانفتاح الاقتصادي مرورًا بالخصخصة في التسعينيات وبرامج أخرى. وأضاف أنه إن انتظرنا تنفيذ التخارجات، فسنحتاج لعشرات السنوات القادمة دون أثر يُذكر على النشاط الاقتصادي.
وقال إن عدم تحقيق برنامج الطروحات الحكومية أهدافه المرجوة قد يكون بسبب استغراق عمليات تقييم الشركات فترة أطول، وعند طرحها لم يكن مناخ السوق مواتيًا لاستقبالها، أو بسبب بعض الأمور المتعلقة بالفحص النافي للجهالة فيما يخص الجوانب المالية، إذ اعتبرته الحكومة كجهة طارحة أمرًا جيدًا، لكن المشتري كان له رأي آخر.
وأشار محيي الدين إلى أنه ليس من الضروري تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية لزيادة مشاركة القطاع الخاص وتحسين الأداء المالي للشركات، مستشهدًا بالعديد من الشركات الحكومية مثل "أرامكو" وشركة الفوسفات المغربية، التي كانت شديدة التميز رغم ملكيتها الحكومية، وذلك بسبب خضوعها لمعايير المنافسة الدولية. وقال: "علينا أن نساوي أرض الملعب بين الشركات، وفي النهاية يملك من يملك، عامًا كان أم خاصًا".
وأضاف محيي الدين أن على الدولة تسوية "قواعد أرض الملعب" بين القطاعين العام والخاص، بحيث يدفع الجميع الجمارك والضرائب نفسها، ولا تكون هناك مزايا في الحصول على التراخيص، ويكون تشغيل العمالة وفقًا لقواعد منظمة للطرفين.
وأشار إلى أن التخارج مكون بسيط مقارنة بما هو أهم، وهو التنافس على أرض الملعب. حينها لن تكون للمشروعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة مشكلة في وجود القطاع الحكومي طالما هناك تنافس عادل.
ورحب محيي الدين بوجود صندوق سيادي أو عدة صناديق سيادية مملوكة للدولة، على أن تتمتع بالقواعد والمعايير الدولية، مشيرًا إلى أنه لا بد من التفريق بين صندوق سيادي أصوله مقوّمة بالعملات الأجنبية، وصناديق لها استثمارات تدر عائدًا بالعملات الأجنبية سواء في الداخل أو الخارج.
وأضاف أنه عندما طُرحت فكرة إنشاء صندوق سيادي لمصر لأول مرة، تم اقتراح أن يكون صندوقًا للأجيال القادمة، مثل شركة قابضة متميزة تدير الأصول لكنها لا تقوم بالاستثمار في الخارج، مشيرًا إلى أنه اقترح على الوزير المسؤول في وقت تأسيس الصندوق السيادي أن يكون الصندوق متميزًا عن الأصول التي يضمها، وألا يكون الضم من أجل إعادة الهيكلة الإدارية فقط.
ودعا محيي الدين إلى ضرورة تقييم دور الصندوق السيادي المصري في الوقت الحالي، خاصة في ظل غياب الشفافية في مؤشراته، مشيرًا إلى أنه رغم تسميته "سياديًا"، إلا أنه يُعتبر شركة لإدارة الأصول.
واقترح إنشاء صناديق سيادية أخرى بالتعاون مع البنك المركزي لاستكمال دوره في إدارة النقد الأجنبي، موضحًا أن أغلب الاقتصادات النامية تتعامل بطريقة خاطئة مع إدارة الاحتياطي النقدي، فعند حدوث فائض فيه تضعه في أوعية عالية السيولة وقليلة العائد، ما يجعل تلك الاحتياطات عرضة للتبخر السريع بمجرد حدوث صدمات اقتصادية، لعدم إدارتها بشكل جيد.
وأضاف محيي الدين أن جميع برامج الإصلاح الأخيرة التي تمت في مصر اعتبارًا من 2016 هيمن عليها الطابع المرتبط بالعلاقة مع صندوق النقد الدولي، والتي من المقرر أن تنتهي في نوفمبر 2026.
وأوضح أن المؤشرات الأخيرة أظهرت التزام مصر، ما يرجح إمكانية استمرار البرنامج، مشيرًا إلى أن دمج المراجعتين الخامسة والسادسة جاء نتيجة لأن بعض متطلبات المراجعة وبعض الإجراءات كانت تحتاج إلى إنجاز.
وبيّن أن التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي يُظهر أن مصر أنجزت المطلوب في السياسات النقدية وسعر الصرف، وكذلك في مؤشرات الموازنة العامة للدولة، ولكن تظل المشكلة قائمة في الإصلاحات الهيكلية، وتحديدًا في مدى إمكانية تعبئة الموارد من الخارج وتخارج الدولة من الأصول في برنامج الطروحات، وقد تم إرجاء الدمج على أمل إتمام هذه الإجراءات.
وأضاف أنه إذا أُنجزت هاتان المراجعتان المدمجتان، فسيكون هناك مراجعتان أخريان فقط متبقيتان.
وأوضح أن العلاقة مع الصندوق بدأت بخلل في الأداء المالي والنقدي، وقد تحسن هذا الوضع نسبيًا، حيث تحسنت المؤشرات الاقتصادية، ومعدلات التضخم لا تزال مرتفعة لكنها أكثر قربًا من مستهدفات البنك المركزي، كما اختفت السوق السوداء، وأصبح الدولار متوفرًا في السوق الرسمية.
ويرى محيي الدين أن مؤشرات الدين العام الخارجي تحسنت نسبيًا، لكنها ليست في الوضع الأمثل، مؤكدًا أنه بالنسبة لمصر كدولة نامية، فإن تأثير خدمة الدين على الإنفاق العام وأولوياته يُعتبر مؤشرًا هامًا؛ فعندما يكون إنفاق خدمة الدين أعلى من الإنفاق على التعليم والصحة، تكون هناك مشكلة.
وأضاف أن حل مشكلة الدين يكمن في السيطرة عليه والتعامل معه من المنبع، أي تقليل الأسباب التي تدفع الدولة للاستدانة. ويجب على الدولة أن تتيح النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص أو أن تنفذه بنظام المشاركة، فبدلًا من أن تقترض الدولة لتنفيذ مشروع، تقوم به بالشراكة مع القطاع الخاص، ما يغنيها عن الاستدانة.
وأشار إلى أن تحديات الاقتصاد المصري تشمل الجوانب الكلية والهيكلية والمؤسسية والمالية والنقدية، وكلها تخضع للإصلاحات.
أوضح أن الهدف الأسمى من كل هذه الإصلاحات هو تحقيق نمو اقتصادي مطّرد مصحوب بالتشغيل، والسيطرة على التضخم، وتحقيق نمو متوازن بين القطاعات، وعدالة في توزيع الدخل والثروات، مؤكدًا أن التنمية هي الغاية النهائية.
وفيما يتعلق بعلاقة مصر مع الصندوق بعد انتهاء البرنامج، يرى محيي الدين أنه يجب أن تتمرد على الحيز الضيق للتعامل مع الصندوق، موضحًا أن ذلك لا يعني عدم استكمال البرنامج، بل يجب إكماله بنجاح، ليكون قاعدة لما هو أهم وأكثر شمولًا وعمقًا، إذ ركّز البرنامج الحالي فقط على معالجة الاختلالات المالية والنقدية.
أشار إلى أن الصندوق يركّز على الجانبين المالي والنقدي، ومن يمثل الحكومة المصرية فيه هما وزير المالية ومحافظ البنك المركزي فقط، وعلى الدولة أن تولي موضوعات النمو والأبعاد الاجتماعية رعاية خاصة مع شركائها في التنمية.
أضاف أن الصندوق لا يتمتع بمزايا نسبية في موضوعات الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية، ويعتمد في تقييمه لها على أثرها في الموازنة العامة للدولة، فيختزل الإصلاحات الهيكلية والمالية في برنامج الطروحات.
أوضح أن التحسن النسبي في المؤشرات الكلية في المراجعة الرابعة يسمح بمراجعة موضوعات التنمية مثل التعليم، والصحة، ومكافحة الفقر، وعدالة توزيع الدخل والثروة، والاستثمارات ذات التنافسية الأعلى لتحقيق مجالات أفضل للتصدير، مشيرًا إلى أن هذه الموضوعات ليست ضمن نطاق عمل الصندوق.
أضاف أن علاقة مصر مع الصندوق لن تنتهي بعد نوفمبر 2026، بل ستستمر ليس فقط فيما يتعلق باسترداد باقي أمواله، ولكن أيضًا في متابعة الوتيرة ومراجعة المؤشرات الاقتصادية بعد انتهاء البرنامج.
أشار إلى أن مصطلح "الفائض الأولي" أصبح شائعًا بسبب التعامل مع الصندوق، الذي يهتم به باعتباره العتبة لتقليل الدين العام، موضحًا أن الصندوق يدخل بمؤشراته ومصطلحاته، لكن ما يهم عموم الناس هو قضايا أخرى مثل الفقر المدقع (الذي يجب ألا يبقى)، وتوفير فرص العمل، ومستويات الدخل، وهذه الأمور تتحقق من خلال برامج للنمو والتنمية والتشغيل عبر الاستثمار الخاص.
قال إن دور الدولة في الاقتصاد المصري واضح على الورق، لكن الواقع غير ذلك، فالوثائق المعلنة تحتاج إلى برامج تنفيذية.
أوضح أن كل الدول، باستثناءات محدودة، لديها رؤية 2030، وبعضها يأخذها بجدية وبرامج تنفيذية عملية مثل السعودية، التي تهيمن رؤيتها على أولويات العمل الحكومي والقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، بينما رؤية مصر 2030 يُسترشد بها حكوميًا لكنها ليست مترجمة بشكل كامل للقطاع الخاص المتعامل مع الحكومة.