عشرات مجموعات الفيسبوك المغلقة التي تحمل أسماء تعبر عن مضمونها عن: الأمومة، الرضاعة، ما بعد الولادة، نصائح للأم، وغيرها، وإذا تجولت فيها سوف تجد خطاً مشتركاً لا يمكن أن تغفله العين أو يتجاهله العقل، وهو الشعور بالتقصير، وتحت هذه المظلة من الشعور يندرج تحتها الكثير من الأسئلة عن التقصير نحو النفس، والجسد، والزوج، والطفل، وفي هذه اللحظة تحاول تخيل الأم في صورة عنكبوت بألف ذراع يحاول مواجهة كل هذا التقصير.
- الأمومة وسؤال الكفاية: كيف تبدأ دوامة الشعور بالذنب؟
تقول الدكتورة إيمان مرسال في كتابها "كيف تلتئم عن الأمومة وأشباحها": "يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهن"، هذا بالتحديد ما تشترك فيه أغلب الأمهات داخل المجموعات الفيسبوكية المتنوعة، باختلاف الثقافات والأماكن والطبقات، وكأنه حجر يُحمل على الظهر مع حمل الرحم.
وتعبر مرسال أكثر عن المعركة الداخلية للأم، قائلة: "أن تكوني أماً هو أن تعيشي مع الأشباح، أن تحاولي التعايش مع تلك الكائنات التي تستوطن مخاوفك وتعيد تشكيل علاقتك بالعالم".
هذا الحديث هو بداية للاقتراب أكثر من عالم الأم، وتحديداً في مرحلة ما بعد الولادة، هذه المرحلة المرتبكة والشرسة في حياة المرأة، وفي السطور القادمة حكايات عن المشاعر قررت بعض الأمهات مشاركتها معنا مع الاحتفاظ بسرية هويتهن..
- حكايات من أرض الواقع: أمومة مشروخة بالوحدة والغضب
تحكي (ي.م) أنها عانت قبل الولادة من الاكتئاب بسبب تعنيف زوجها (في ذلك الوقت والذي أصبح طليقها حاليا)، وبعد الولادة كانت فترة صعبة للغاية لأن الزوج "منع أسرتها من الزيارات تماما"، وشعرت بوحدة بالإضافة إلى مشاكل في الرضاعة زادت الوضع سوءً، وقالت: "شعرت أني أم فاشلة، لأني لا استطيع ممارسة الرضاعة الطبيعية بشكل جيد لابني، رغم استشارة الكثير من المتخصصين، واستمر شعور الفشل لمدة شهرين بعد الولادة حتى عادت علاقتي بأهلي مرة أخرى".
وعن وجود زوجها في هذه المرحلة التي واجهتها فيها مشاعر الشعور بالذنب، قالت: "لم يكن يساعدني ولكن على الأقل لم يكن يؤذيني جسدياً، وهذه هي الفترة الوحيدة التي لم يتعدى عليا بالضرب فيها "، ولكن التوقف عن التعنيف الجسدي لا يعني توقف التعنيف النفسي المعتمد على التقليل من شكل الجسد بسبب تغيرات الحمل، "كان فيه تعليقات سيئة على شكل جسمي في الفترة دي، وبعد الولادة وبعد ما عديت سنة تقريبا ده كان حافز ليا إني أخس وخسيت بالفعل".
"غضب وعجز ووحدة" كانت كل هذه المشاعر دفعة واحدة تواجه (ه.ج) بعد الولادة، حيث انهارت كل توقعاتها، وتصف الوضع في مجمله قائلة "الأمومة سحقتني كامرأة".
تحكي (ه.ج): "أنا كأم لا استطيع فعل أي شيء مهما بلغت درجة بساطته، كوب الماء أو مشروب ساخن أو ساندوتش، حتى دخول الحمام يحتاج ترتيب، أحيانا كنت أذهب لوالدتي لكي استطيع ترك الرضيع والدخول للاستحمام، كل شيء أصبح صعب، شعرت بالعجز والضعف مع كل هذا، ومهما حاول من حولك المساعدة، سوف تظل مساعدة لا تتعدى 5%، لا يوجد شخص يتحمل المسؤولية النص بالنص حتى الأب، لأن لديه مسؤوليات مالية وعمل يجب أن يذهب له، متفهمة ذلك، لكن في ذلك الوقت من الضغط النفسي كنت أشعر بالعزلة، الجميع يمارسون حياتهم بشكل طبيعي إلا أنا".
وأكملت: "فقدت إحساسي بالاستقلالية، لأن الطفل معتمد عليا كليا، وأنا كأم معتمدة على الآخرين لأن احتاج للمساندة، حتى جسدي فقدت شعوري تجاه، شعرت أنه ليس ملكي، وكأنه انفضل عني، ثقتي بنفسي دُمرت تماما بعد الولادة، لأن جسمي اتغير، وكان الموضوع منفر بالنسبة لي، وكرهت المراية أو إني أبص فيها، ورغم مكنش فيه تعليقات سلبية من جوزي، لكن داخليا أصبحت لا أعرب جسدي، ولا يوجد وقت أفكر أنا احتاج لإيه، وإذا حدث وعبرت عن شكوى أو ضجر أجد من حولي يضعوني في خانة أني أم ليست جيدة، لا أحد يقدر الشكوى، صوت الطفل فقط هو المسموع".
وأوضحت سبب شعور الغضب الذي تكون داخلها، كان تجاه زوجها كرجل لديه القدرة على الاختيار، "هو يستطيع الذهاب للعمل وقادر على الذهاب للحمام وقادر على الذهاب للتمرين، وأيضا قضاء وقت مع أصدقائه، قادر إنه يرتاح وأنا لا، الراجل مهما كان بيحاول يشارك مش بيشيل زي الأم، لأنه يضع راحته وصحته النفسية والجسدية أولوية، لكن الأم لا تمتلك هذه الرفاهية أصلا، وتحدثت مع أمهات غيري وكان لديهم نفس المشاعر".
- "كلنا أمهات مقصرات": المجموعات الإلكترونية مرآة لليأس المشترك
وبجولة بسيطة داخل مجموعات الفيسبوك الخاصة بالأمهات سوف نجد مئات المنشورات التي تشترك مع ما قصته النساء الثلاث السابقا، على سبيل المثال ما قالته أم في جروب: "نفسي أنام وأريح جسمي وجوزي مش عاوزني ارتاح بيقولي كل الستات خلفت وبتروق وواخدين بالهم من نفسم أنا تعبت أقسم بالله تعبت أوي محدش حاسس بيا"، هكذا قصت إحدى السيدات في مجموعة "تجارب وخبرات الماميز" جزء من معاناتها اليومية مع عدم التقدير الذي تعيشه منذ أن أنجبت صغيرها، مما جعلها فقدت الثقة في نفسها وجسدها، وقالت الُجملة التي كررتها جميع من تحدثن تقريباً "أنا أم مُقصرة".
من الأمور التي تشترك فيها النساء أيضا من خلال تحليل محتوى بعض المنشورات في مجموعات الأمهات على فيسبوك، هي الشكوى المستمرة من تعليقات الزوج على شكل الجسد بعد الولادة، وطلبات وأسئلة حولة طرق للتخسيس وتفتيح مناطق في الجسم لتجنب هذه التعليقات، ومن الأمثلة على هذه المنشورات "بنات نفسي أخس أنا لسه ولده من أربع شهور جسمي مليان شويه وبطني أكتر نفسي أخس لأن بجد جوزي كل شويه يقولي مكنتيش كدة ويضايقني بالكلام، اللي عندها طريقة حلوة تخسس أو نوع برشام ميأثرش على الرضاعة".
- الطب النفسي يشرح: ما الذي يدور في نفس الأم بعد الولادة؟
وتعليقا على ما قصته بعض النساء، تفسر الدكتورة نهال زين العابدين، أخصائية الطب النفسي، الوضع الشائك لمشاعر النساء بعد الولادة، عبر تفكيك هذه المشاعر المعقدة، "في البداية الوضع بعد الولادة مباشرة هناك كثير من السيدات -ربما نستطيع القول 80% منهن- يمرون بما يسمى فترة الحزن العابر، وهذا لا يصنف اكتئاب، وهو عبارة عن حالة تمزج بين الحزن والشعور بالقلق والذنب، وهناك سيدات تستطيع تجاوز هذه المرحلة إذا حدث دعم من الأفراد المحيطة، وهناك أخريات يتحول الأمر لديهن إلى اكتئاب ما بعد الولادة، خاصة إذا كان لدى السيدة استعداد جيني للاكتئاب، ولم يستطع الأفراد المحيطين مساعدتها في مساعدتها على تجاوز هذه المرحلة".
وأضافت: "حالة الشعور بالفشل/ الذنب نابعة لدى السيدات بشكل أساسي من كتلة مشاعر متضاربة تتكون داخليا -مضروبة في الخلاط- ما بين: رغبة قوية بتنفيذ أفضل شيء لأطفالهم، رعاية جيدة، وحب وتقديم كافة الاحتياجات، هناك سعي للكمال عامة، وفي نفس الوقت مشاعر ذاتية تتعلق بكونها إنسانة لديها احتياجات خاصة، وفي هذه المرحلة تحتاج الأم أن تتقبل فكرة أننا لن نكون مثاليين، ولن نستطيع تقديم كل شيء للطفل بشكل مثالي أغلب الوقت، الأمهات تحتاج في هذه الفترة إلى تفهم طبيعتهن البشرية، وأنهن كائنات تحتاج للاهتمام والرعاية مثل صغيرها، ولكن ما يقف حائلاً تجاه ذلك هي الثقافة المجتمعية التي تمثل ضغط خارجي مضاعف على الأم، خاصة في عصر منصات التواصل الاجتماعي، حيث تظهر عشرات النصائح حول كيفية صناعة أم مثالية، كل المتخصصين بيقولوا إزاي تكوني أم كويسة، ومفيش حد بيقول إزاي تكوني إنتي شخصيا كإنسانية بخير".
- سُم المقارنة وصورة الأم الخارقة: الوجه الآخر لمنصات التواصل
"المقارنة من أخطر الأمور في هذه المرحلة"، أكدت زين العابدين في تحليلها لحكايات الأمهات أن أحد العوامل السلبية القوية التي تؤدي بالأمهات إلى حالة سيئة بعد الولادة هي المقارنة، حيث تقع الأم في سيل من المقارنات اللانهائية، سواء ممن حولها، أو من البيئة المحيطة الكٌبرى، مثل صور المشاهير والمودلز والبلوجرز، الذين يصدرون صورا مثالية عن أنفسهن وأجسادهن بعد الولادة، "الموروثات الثقافية تلعب دور كبير إلى جوار المقارنات في هذه الفترة، حيث تجد الأم نفسها محاصرة بين جميع هذه الأفكار، والأصوات التي تقلل من معاناتها كأم، وتتناسى أن الأمومة ليست أمرا هامشيا بل هي تغيير جذري يقع على عاتق المرأة، يحتاج إلى وقت كبير للاستيعاب والتقبل، حتى الجسد يحتاج إلى وقت حتى يستعيد حالته الطبيعية بعد أن كان مجهز بالكامل لرعاية الجنين، ويكون للزوج دور أساسي في هذه المرحلة لتخفيف كل هذه الأصوات، ولكن التحديات الجديدة التي يواجهها تجعل العلاقة الزوجية تتوتر وتزداد المسافة بين الزوجين مما يخلق تأثير سلبي على صورة المرأة الذاتية تجاه نفسها".